كتب : محمود عزت عندما نظرت إلي العدد قلت:' مستحيل', لكن ذلك ما حدث, وصل الميكروباص الصغير حمولة12 راكبا, حوالي الثالثة فجرا و علي الرصيف ما يقرب من30 فردا ينتظرون منذ حوالي الساعة. ما إن وصل الميكروباص حتي إندفع الجميع وأنا بينهم إلي الباب, بعد أن ركبت كان الذين لا زالوا بالأسفل يهتفون:' نستحمل بعض يا جماعة..نساع بعض يا جماعة', كان السائق هو الآخر يهتف: نستحمل بعض يا جماعة معلش..كلها مسافة السكة, نظرت من الشباك المجاور إلي الذين لم يحالفهم الحظ في الركوب, و هم يواصلون الهتاف و كل منهم يدس ذراع أو ساق إلي داخل الميكروباص الممتلئ عن آخره,18 فردا آخر يحاولون الدخول, قلت: مستحيل, رغم تعاطفي الكامل و تفهمي المطلق, نظريا مستحيل, لكن ذلك ما حدث, تحرك الميكروباص التويوتا الصغير و داخله أكثر من ثلاثين راكب, مكدسين فيما يشبه الأوضاع الجنينية و التوائم الملتحمة, لم يكن هناك مساحة لتحريك ذراع أو كتف, عن يميني كان الشباك يضغط علي خدي و عن يساري مباشرة, بلفة عنق, كان أنفي يتلصق بخد شاب في مثل سني. خمس و أربعون دقيقة بالكامل قضيتها في تجربة صوفية نادرة, ثلاثون جسدا متلاحمون فيما يشبه الكتلة الواحدة تهتز كلها معا باهتزازت الميكروباص الضئيل علي الأسفلت,بينما يبرز من نوافذه الضيقة رأس أو مؤخرة أو ذراع,الجميع تغمرهم سعادة نادرة علي غير عادة المصريين مؤخرا في المواصلات العامة, أحدهم لا يتمكن من أن يخرج الأجرة من جيبه فيدفع له آخر بحماس, يتأوه كهل في أقصي الأمام فتتزحزح الكتلة كلها إلي الوراء سنتيمترا أو اثنين, ضحكات عالية و ابتسامات ودودة, ثم قبل منتصف الطريق بقليل, كان هناك من يلوح للميكروباص وهو يرتجف من البرد, كدت أبدأ في الأسي من أجله بالفعل, لكن الميكروباص توقف, و فتح الباب, و امتدت الأيدي تشد الرجل إلي الداخل, لم يعد لدي ما أعلق علي كونه مستحيلا بعد الآن, الرجل ركب بكامل جسده و شكر الناس و استقر آمنا بالداخل, يستحق النظام الغذائي للمصريين- علي ما يبدو في مواقف كهذي- الكثير من الإشادة, كثير من الشحوم و الدهون الزائدة تنضغط الآن بكفاءة تحت قوة ضغط كل راكب إضافي,عند الوصول إلي ثلاثة أرباع الطريق كان هناك من يريد النزول, فتحركت الكتلة بكفاءة إلي الباب, انفرطت واحدا وراء الآخر لتفسح لأحد أجزائها العزيزة المغادرة بالإنفصال, سلامات و دعوات حميمة توقعت بعدها أحضانا متبادلة بين الراكب المغادر و بقية الركاب, و هكذا تدريجيا كانت الرفقة السعيدة تتناقص, فتتناقص معها الضحكات و الإبتسامات و حرارة الحماس الأخوي, بحيث لم يعد هناك في التويوتا قرب النهاية غيري و راكبين آخرين, موزعين بعيدا علي المقاعد, كل منا شارد من النافذة المجاورة إليه, يتأمل الشوارع الخاوية المضاءة في صمت.