كان برلمان1924 هو أول برلمان حقيقي يعبر بحق عن الشعب المصري ويمارس المصريون لأول مرة في التاريخ بانتخاب نوابه, دورا مؤثرا في حياتهم كمشاركين أساسيين في الحكم, معبرين عن إرادتهم تعبيرا حرا أذهل الجميع وقتها في الداخل والخارج. الأولة: هدية الخديوي فبرغم أن التجربة البرلمانية بدأت في مصر خلال عام1866 في عهد الخديوي إسماعيل, بإنشاء أول برلمان مصري, إلا أن التجربة- علي ريادتها وأهميتها التاريخية العظيمة- كانت منقوصة مبتورة لحد الخجل, فلم يكن مجلس شوري النواب معبرا عن السواد العظم من الشعب المصري, إذ أن ممثلي الشعب لم يكونوا منتخبين من الشعب انتخابا حقيقيا- غير أنه لا يمكن بمعايير الحاضر, أن نظلم هذا المجلس بالحكم عليه إلا من خلال ظروف عصره- وهو علي أية حال كان مكونا من الحايزين علي الأوصاف المعتبرة في الريف وهم ما نسميهم بعلية القوم وكذلك يختار أكثرية وجوه أعيان المدائن نوابهم من هؤلاء الأعيان أنفسهم فالانتحاب إذن مقصور علي هؤلاء, باعتبار أن مشايخ القري, مختارون مطن أهلها وأن وجوه الأعيان في المدن لن يتفقوا بإجماع أو بأكثرية, إلا علي رجل منهم!. ولم ينس المشرع لأول مجلس نيابي مصري أنشئ برغبة صاحب الحضرة الخديوية إسماعيل باشا, أن ينص صراحة في أحد بنود القانون الصادر في22 أكتوبر من عام1866, علي حرمان من صدر بحقهم أحكام بالإفلاس أو الفقراء المحتاجين من اختيار نواب المجلس الجديد!. وبما أن غالبية الشعب المصري من هذا الصنف الأخير من البشر, فيترتب عليه ألا يكون هؤلاء النواب منتخبين من صميم هذا الشعب الذي يرزح بين ضغوط الفقر, من الداخل والطمع في بلاده, من الخارج!. ومع ذلك تشكل المجلس كقطعة ديكور تزين الصالون الذي أراد الخديو إسماعيل أن يجعله علي النمط الأوروبي. ولكن إسماعيل بهذا قد خطي, رغم كل شيء, بالحياة السياسية المصرية خطوة واسعة وجبارة, وأهدي الشعب المصري هدية ثمينة, أصبحت مصر بسببها تفخر بأنها صاحبة تجربة تاريخية رائدة في الشرق في الحياة البرلمانية, فلقد صار في القاهرة مجلس كمجالس لندرة وباريز به نواب يراجعون الحكومة ويطلعون علي مشروعات القوانين الحاكمة والمنظمة لشئون البلاد المصرية. وكان المجلس مكونا من خمسة وسبعين نائبا يمثلون مدنها الكبري وأقاليمها العتيدة وهو ذا قد صار معظمهم رءوسا لعائلاتهم فيما بعد, ليدل ورود اسم واحد منهم علي عراقة تلك العائلة ولتصبح مضابط المجلس مستندات فخر لأحفادهم من بعدهم. لكن النواب وإن كانوا من الأعيان أو المعتبرين, فهم مصريون أيضا, لا نغمطهم الحق في معرفة كيف تدار الأمور في القطر الذي ينتسبون إليه, بل ومساءلة حكامه عما ينفقون. فهاهم بكل جسارة, يسألون عن ميزانية البلاد.. فيما وأين وكيف تنفق؟!. وهنا مربط الفرس, فما كاد السادة الأعيان يطلبون ذلك حتي تهكم عليهم رياض باشا ناظر النظار رئيس الوزراء- وقال لهم ساخرا من العمائم وما تحتها: أنتم بعمائمكم تريدون ان تقلدوا نواب أوروبا؟!. فالأمر حين جد الجد, ليس أكثر من هيكل خاو لا يريدون منه إلا الشكل فقط!. وبدأت الصراعات بين الحكام والنواب, لكن الخطر الأكبر كان في المتربصين من خارج البلاد المنتظرين بين عشية وضحاها للانقضاض عليها, لاسيما بعد اكتمال شق قناة السويس ودخولها الملاحة الدولية كأهم شريان تجاري في العالم, فلم تمض6 سنوات من بداية التجربة البرلمانية تلك, إلا وكان المصريون قد تنبهوا للأمر وبدأ الحراك السياسي يبدو أكثر نضجا ووعيا وواكب التجربة النيابية صحوة ثقافية كبري, لكن ما كاد يحدث ذلك, حتي جاء الاحتلال البريطاني ليجثم علي البلاد بتواطؤ دولي قابله خذلان من جانب تركيا العثمانية التي تتبع لها مصر رسميا, فتمكن الإنجليز دعاة الحرية والديمقراطية من احتلال مصر بدعوة من خديويها الجديد توفيق بن إسماعيل الذي انقلب علي أبيه ونفاه خارج البلاد تنفيذا للأمر السلطاني التركي المنفذ لأوامر الإنجليز!. والثانية: قمار وفحشاء وفقراء كان أول ما فعله البريطانيون أصحاب أعتي البرلمانات هو أنهم أبطلوا المجلس النيابي المصري, ليحل محله مجلس شوري القوانين من ثلاثين نائبا لم يكن لهم أي سلطات حقيقية ولا شبه حقيقية وربما حتي لا يقال إن بريطانيا قد أتت علي الحياة النيابية الناشئة في مصر المحروسة, فلم يكن هذا المجلس سوي خيالات مآتة كالتي يضعها الفلاحون في مزارعهم لإخافة الطيور, فحتي المواقف التي وقفها نواب المجلس السابق, لم يشهدها هذا المجلس الذي يعين الخديو توفيق أربعة عشر نائبا منه بينهم وكيل بينما يتم اختيار الستة عشر الباقين بالاقتراع من مجالس المديريات. وكان نظام الانتخاب يتم عبر نظام مندوبين شبه معينين من جانب السلطات, حيث ينتخب من كل دائرة مائة ممن لهم حق الانتخاب يختارون مندوبا واحدا يشارك بقية المندوبين المنتخبين مثله في اختيار النواب وأحيانا مندوب عن كل ثمن من أثمان المدن. لم ننس بالطبع أن من لهم حق الانتخاب, يشترط في كل واحد فيهم, أن يكون قادرا علي دفع ضريبة سنوية لا تقل عن5000 قرش صاغ عن أطيان او عقارات والتي يخبرنا المؤرخ الكبير يونان لبيب رزق, أنها توازي ضريبة62 فدانا والاستثناء من ذلك يذهب إلي فئات المتعلمين كالحائزين علي رتبة التدريس أو المشهورين بالعالمية والقساوسة والحاخامات والمدرسين في المدارس الأميرية وأرباب الوظائف الملكية الحاليين والمتقاعدين وخريجي المدارس العليا وضباط العسكرية العاملين والمستودعين والمتقاعدين والأفوكاتية المحامين المقبولون في المجالس النظامية وأخيرا.. الأجزجية الصيادلة والأطباء والمهندسين فلهم حق الانتخاب ولو لم يكن عليهم المبلغ المقرر سلفا. ولا يسمح بالانتخاب ويحرموا منه حرمانا مطلقا, كل أصحاب بيوت القمار والفحشاء والفقراء.. هكذا أقر وأضاف القانون الذي وضع بذرته لورد دوفرين سفير بريطانيا العظمي في عاصمة الخلافة العثمانية استانبول صاحبة الولاية علي البلاد المصرية الذي وضع نظاما لحكم البلاد في هذا التقرير في.1883 والثالثة: صراع الرعاع والأشقياء وتقلبت السنون علي مصر ولم يتوان الوطنيون في كفاحكم علي اختلاف انتماءاتهم وخلافاتهم الحادة ولكن ظلت المجالس النيابية من مجلس شوري نواب إلي شوري قوانين إلي جمعية عمومية إلي الجمعية التشريعية, تكابد ليتسلل إليها أبناء الفلاحين والأفنديات, حتي وقعت المواجهة في الزيارة الشهيرة لدار المعتمد البريطاني السير ريجنالد وينجت التي قام بها سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي بعد اجتماع في منزل محمد محمود, لتذكير بريطانيا بالوفاء بوعدها بإلغاء الحماية علي مصر بعد انتهاء الحرب التي خاض غمارها الفلاحون المصرين من سن13 وحتي سن الشيخوخة, كجنود علي جبهاتها في معركة لاناقة لهم فيها ولا جمل إلا أن تجلو بريطانيا نظير اشتراكهم في الحرب, لكن كالعادة تنكر المحتلون لوعودهم ونفوا زغلول وزملاءه حتي اندلعت المظاهرات لتشتعل ثورة1919 وتنتهي بإعلان استقلال مصر المشروط عقب تصريح28 فبراير1922 الشهير وتشرع مصر في إعداد دستور من لجنة من ثلاثين شخصا وهذه اللجنة اختيرت من النخبة وتجاهلت جماهير الوفد الذي كان زعيمه منفيا واعترض عليها وأسماها بلجنة الأشقياء. غير أن أحد هؤلاء الأشقياء لم يكن سوي رفيق سعد في المقابلة الشهيرة عبد العزيز بك فهمي والذي صار مع الفريق المنابذ لسعد الذي أصر علي أن يكون مع الفلاحين وألا تنسيه البدلة والطربوش الجلباب والعمامة!. وخلال مناقشات لجنة الدستور الأول, أصر عبد العزيز فهمي الأديب والشاعر والقانوني العتيد والذي لقب بحق أبو الدستور أن ينتزع حق التصويت لكل مصري بلغ من العمر21 سنة, ذلك لأن كل المصريين مستعدون لتأدية الخدمة العسكرية لبلادهم ومن حقهم اختيار نوابهم. كان هذا هو المكسب الحقيقي للمصري كناخب, لاختيار نائبه والمشاركة في الحياة السياسية كمواطن كامل المواطنة صاحب حق الانتخاب لأول مرة بعد كفاح مرير. وكانت أول انتخابات برلمانية علي أسس التعددية الحزبية أجريت في12 يناير1924, حيث كانت مصر قد قسمت إلي214 دائرة انتخابية بالنظام الفردي وإن بقي الانتخاب علي درجتين, حيث ينتخب كل ثلاثين مندوبا عنهم للإدلاء بصوته في مجلس النواب وكل خمسة من هؤلاء الذين تم اختارهم ينتخبون واحدا للإدلاء بصوته في مجلس الشيوخ.. وكان أبرز المعالم سقوط رموز الحزب المنافس للوفد وهو حزب الأحرار الدستوريين أولاد الذوات وكان فيهم علامات في الفكر والقانون والأدب وقد توالت النتائج مفزعة لهم مخيبة لآمالهم فقد سقط في الانتخابات كثيرون ممن يعدون رموزا للحزب خاصة وللبلاد عامة والأهم من ذلك, سقوط رئيس الوزراء نفسه أمام شاب رشحه سعد زغلول, كان صاحب هذا السقوط العظيم هو يحيي باشا إبراهيم في انتخابات لم تشبها شائبة أمنية أو في طول البلاد وعرضها. كان عدد السكان في مصر12466192 مواطنا ومن لهم حق الانتخاب في الدفاتر,2726768 ناخبا بنسبة21.3% من عدد السكان وكان الجميع يستشعر تفوق رجال سعد من الوفد الذي يمثل قطاعات الفلاحين والعمال الذين تجاهلهم التاريخ, فاكتسح الوفد ليحصد البسطاء من أبناء الشعب علي191 مقعدا من214 في المجلس الجديد الذي يعد هو البرلمان الأول الحقيقي الذي شارك فيه المصريون بأعلي نسبة تصويت في تاريخ الانتحابات المصرية بلغت58.04% وهي الأعلي في نسبة المشاركة حتي الآن!