منذ بدأت تشجيع الكرة في نعومة أظافري ، وطوال حياتي في عشق الساحرة المستديرة، لم أحب سوى ثلاثة لاعبين فقط . سطروا تاريخًا كبيرًا ، وأحدثوا تأثيرًا عميقًا في التاريخ الكروي لناديهم العريق الاهلي ، وبلدهم الكبير مصر ، وهم أسطورة الكرة المصرية والعربية محمود الخطيب ، ومارادونا النيل طاهر أبو زيد ، والقديس محمد أبو تريكة ، وكان أبرز ماشدني لهم شيئان ، الاول معنوي ، وهو شخصيتهم المتزنة ، المشبوبة بالتواضع ، والاعتزاز بالنفس ، والامانة ، والوفاء ، وقوة الانتماء لبلدهم ، وشعبهم ، وناديهم ، والآخر حسي ، وهو مهاراتهم الكروية الخالصة التي تصل لحد الإبداع ، وهو ما أهلهم لقيادة فريق ناديهم ، ومنتخب وطنهم ، أعوامًا طويلة .
ولكن كل منهم اختلف عن الآخر ، بقدر الذكاء الحياتي ، والاجتماعي ، في التعامل مع حياته الجديدة بعد الاعتزال ، فالخطيب ، وأبو زيد اقتحما مجال الادارة بقوة ، ونجحا في تبوؤ مكانة عالية في ناديهم ، سواء منهم من سلك مسلك المؤيد ، او المعارض ، ولكن مما لاشك فيه أنهما بقوة شخصيتيهما ، اكتسبا جماهيرية أخرى زادت من شعبيتيهما السابقة أيام مجدهما الكروي ، فأصبح الخطيب نائبًا لرئيس النادي ، وبات ابو زيد وزيرًا سابقًا للشباب والرياضة ، وفي كل الأوقات ، حرص كلاهما على عدم إقحام الرياضة في السياسة ، فحميا شعبيتيهما الجارفتين من الاندثار .
لكن القديس ، بعد اعتزاله ، خرج عن المألوف لدى العديد من لاعبي الكرة ، وخاض في اللعبة القذرة ، لتلوث مجده الكروي ، وجماهيريته الطاغية ، الذي تعب في صنعهما بإبداعه ، وعرقه ، سنوات مديدة ، بإقحام السياسة في الرياضة ، ففقد كل مكتسباته التي جمعها طوال تاريخه ، من ثقة الوسط الرياضي فيه ، وشدة عشق الجمهور المصري بمختلف انتماءاته له ، لأخلاقه الحميدة ، وأدبه ، وتدينه ، ليتوج بأكبر جماهيرية للاعب كرة مصري ، بعد الأسطورة الكرة الخطيب .
وقد تسبب تعبير تريكة نجم مصر والنادي الاهلي عن انتمائه السياسي للإخوان ، بشكل علني صارخ ، عن صدمة للعديد من عشاقه ، وعشاق فنه الكروي ، باعتباره مبدعًا كرويًا ، وليس لاعبًا عاديا ، بدأ من الصفر حتى حفر اسمه من نور في التاريخ الكروي المصري ، وبات قبل اعتزاله على اعتاب العالمية ، وهذا الكفاح دومًا يستهوي المصريين .
والمشكلة لم تكمن في الاعتراض على التعبير عن توجهه السياسي ، باعتباره حقًّا لكل مواطن ، وانما في طريقة التعبير ، التي تمثلت في تأييده الإخوان في فكرهم السياسي الدموي ، وفجورهم في الخصومة ، وعدم اعترافه بثورة الشعب عليهم في يونيو ، لسوء قيادتهم ، التي كادت تجر البلاد للهاوية ، بل وصل الأمر لاستثمار امواله في مشاريعهم ، وكان الاولى به عدم اقحام السياسة في مجاله ، ليحمي تاريخه ، وشعبيته ، وقد استغل ذلك هواة الصيد في الماء العكر ، الذي عكره القديس بيديه للاسف ، وأعطاهم الفرصة ، لتشويه تاريخه ، وإفساد سمعته ، وبالطبع الناس مذاهب فيما يسمعون ، وهذا ماترتب عليه أن انقسم عليه جمهوره الذي احبه ، فمنهم من أسقطه من حساباته ، وهم كُثْرٌ ، وآخرون ، وهم قلة ، عابوا عليه مافعله ، واعتبروه سقطة في تاريخه ، وعدت ، وإن لم تنل من شعبيته لديهم كلاعب ، قبل أن يدخل مستنقع السياسة ، وتزل قدماه في وحلها ، وأنا منهم .
الامر لم يتوقف عند هذا الحد ، بل زادت المغالاة في الانتقام من تريكة ، بانتشار دعوات للاستهانة به ، من خلال عقد مقارنة بينه كلاعب كرة ، وجنود الجيش الذين يفقدون حياتهم ، دفاعًا عن وطنهم ، لانقاذه من الوقوع في براثن الارهاب ، وطبعًا سقط القديس في الفخ ، وساعد على تلويث سمعته أكثر ، بعد اكتشاف مشاركته في شركة إخوانية ، في الوقت الذي لم يفكر فيه بحصافة بالبعد عن السياسة ، بعدما أصابه ما أصابه ، وجرى بعض الناس وراء تلك الدعوات ، وزادوها بأنه يحب جماعته أكثر من وطنه ، وضد جيشه ، خاصة بعد سقطته الكبرى بظهوره في تجمع رابعة صوتًا وصورة .
ومعلوم أنه منذ فجر التاريخ ، و المصري يعشق الجندية ، باعتبارها مصنع الرجال لما تغرسه في نفوس أبنائها من صفات الانضباط ، والالتزام ، والوطنية ، والأمانة ، والوفاء ، وخلافه من الصفات التي تمنح الشخصية قوة وجاذبية ، فضلًا عن أنها تعد كذلك دليل الولاء للوطن بالدفاع عنه ، حتى أن كل أب وأم كانا ، وإلى وقتنا هذا ، يحثان أولادهما على الانخراط في الجيش ، بعد التخرج من المرحلة الثانوية ، وكم يشعران بالفخر عندما ينجح ، ولو واحد من أولادهما ، في الالتحاق بصفوف القوات المسلحة .
وفي الوقت نفسه ، كان رجل الشارع العادي يعتبر العسكرية شرف لايدانيه شرف آخر ، ويسعى للالتحاق بصفوف الجيش ، ولو تطوعًا ، وينظر أيضًا لمنتسبي تلك الهيئة العريقة ، سواء قادة ، أو ضباط ، أو جنود ، بالكثير من الهيبة ، والاحترام ، والتقدير ، والإعزاز ، ومازال هذا الشيء ساريًا الى وقتنا هذا ، بل وزاد بعد ثورة 30 يونيو عندما نجح عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع وقتها ، ومن خلفه الجيش بكبار قادته ، من إنقاذ ثورة 23 يناير من براثن الإخوان ، بعد أن خطفوها ، وركبوا أعلى الموجة ، لينسبوا لأنفسهم الفضل ، ونجحوا في ذلك بالفعل ، وحكموا برهة من الزمن ، وهم غير مؤهلين للحكم ، ولا قيادة بلد عريق بحجم ، وتاريخ مصر أم الدنيا ، فكادوا يعصفون بمقدرات البلاد .
وهنا انا لست بصدد الدفاع عن تريكة لمجرد الدفاع فحسب ، وإنما الحق يقال أنه أساسًا ، لاتصح تلك المقارنة بين لاعب الكرة ، والجندي ، بل ولا أي مهنة أخرى ، لان الجندية شرف وإلزام على كل ابناء الوطن الواحد ، لاتقارن بوظيفة ، او مهنة ، ورغم ذلك فكلٌّ في ميدانه جندي ، حتى لاعب الكرة ، فهو ممثل لبلده ، ورافع رايته في المحافل القارية والعالمية ، وأي إنجاز أو انتصار يحققه في مجاله هو مجد يضاف لوطنه .
وما الوطن إلا عبارة عن أفراد يكونون جماعات ، وكل فرد له دوره في بناء هذا الوطن ، بغض النظر عن طبيعة هذا الدور ، فكل ميسر لما خلق له ، ومن غير المقبول وضع قائمة بالاكثر أهمية بين أفراد المجتمع ، فلا تصح المقارنة بين أدوار الفلاح ، والجندي ، والطبيب ، والطيار ، واللاعب ، والصحفي ، والسياسي .. إلخ ، فكلهم لبنات في بناء الوطن ، والدفاع عنه ، وتحقيق أمجاده .
إذن فلا للتهوين من قيمة الرياضيين ، والرياضة بشكل عام ، فهي لاتقل أهمية وخطورة عن السياسة ، وكم نجحت فيما عجزت عن تحقيقه أعتى الحروب ، إذ قربت دولًا كثيرة كانت بينها عداوات مزمنة ، وأزالت الكراهية التاريخية بين شعوب ، ورفعت اسم مصر عاليًا بين دول العالم ، فكما للجندية المصرية تاريخها العريق ، وشرفها الناصع ، أيضًا للرياضة المصرية صولات وجولات ، وانتصارات ، وإنجازات عالمية ذائعة الصيت .
كما أن اللاعب الذي نستهين بقدرهً، كان في يوم من الأيام جنديًّا يحارب من أجل وطنه ، ونال شرف الجندية ، وبالمقابل الجندي الذي دافع ، وحارب دفاعًا عن بلده خرج بعد انتهاء تجنيده ليلعب الكرة ، ويرفع لواء بلده في الرياضة .
والحقيقة ، أن الجميع في مركب واحد ، يتكاتفون من أجل الوطن ، وكم أسعد تريكة ، ورفاقه في الأهلي ، والمنتخب ، سنوات وسنوات ، الشعب المصري ، الذي أقام الاحتفالات ، والليالي الملاح ببطولة افريقيا 3 مرات متتالية ، وبطولات الأندية الإفريقية مرات ومرات .
وبالنهاية ، لا يستحق تريكة أن نبخس قدره ، وتاريخه ، حتى وإن أخطأ ، ويكفيه أن مافعله أسقط القديس عن عرشه ، فنال من شعبيته كرياضي ، وضيَّع عليه فرصًا عديدة كان يمكنه الفوز بها بسهولة في ناديه الأثير ، الذي منحه الحب ، والشهرة ، من خلال تبوؤ مناصب مرموقة في التدريب ، أو الإدارة ، وهاهو قد استوعب الدرس ، والآن نسمع عن ظهوره من جديد على الساحة الرياضية ، باستعداده لنيل دورات تدريبية متقدمة في ألمانيا ، وسعيه لاستصدار تصريح من الجبلاية ، لامتهان التدريب ، فهل ينجح في استعادة عرشه المفقود ، وحب الناس له في مجاله الجديد ؟ هذا ماستثبته الأيام . [email protected] لمزيد من مقالات ياسر بهيج