كان مؤلما على النفس ان تبادر روسيا بتحويل سائحيها من مصر الى المقاصد والمنتجعات السياحية التركية، وكأن تركيا "خالية من الارهاب"، وهي التي تعرف اكثر من غيرها مدى الارتباط العضوى بين النظام التركي و"داعش". وكان غير مقبول للقلب والعقل معا ان تفرض روسيا "قيودها" على القاهرة، في نفس الوقت الذي تقدم فيه "العطايا" الى من يناصبها العداء في سوريا ومناطق اخرى، وطالما كان تاريخيا عدوها التقليدى منذ سنوات الامبراطورية العثمانية وحتى حروب الشيشان وجورجيا ومرورا بحربي القرم في القرن التاسع عشر. وها هي الاحداث تتوالى هادرة جارفة لتضع موسكو وجها لوجه امام "الصديق"، الذي اختار مناصبتها العداء، وتجرأ وأسقط طائرتها فوق الاراضي السورية، ولتبدو معها مضطرة في نهاية المطاف الى تدارك أخطاء الامس بسلسلة من القرارات والمواقف التي قد تكون بالتبعية سبيلا الى تصحيح ما يمكن أن يكون في مصلحة الصديق التاريخي الذي لم يوجه يوما فوهة بندقيته الى صدر أي من أبناء روسيا على مر التاريخ. ها هي موسكو تعلن اليوم عما كانت تعرفه بالفعل حول حقيقة نظام رجب طيب اردوغان وابعاد علاقاته مع أكثر الارهابيين في العالم دناءة وخسة ونذالة .. مع "داعش" التي أعلن الناطق الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف انها ترتبط بعلاقات تجارية مع بلال اردوغان ابن الرئيس التركي. وكان بيسكوف اشار الى "ان لدى موسكو معلومات محددة عن ارتباطه بتجارة النفط، وقال "أنطلق من تصريح رئيسنا. بالفعل توجد معلومات محددة لا أعرف تفاصيلها، ولكن توجد مصلحة"، فيما اشار الى أن زوج ابنة أردوغان يشغل منصب وزير الطاقة في الحكومة التركية الجديدة. اما عن ذلك النفط الذي يتحدث عنه بيسكوف، فيتمثل في قوافل صهاريج النفط التي قال الرئيس بوتين ان الاقمار الصناعية الروسية رصدتها وصورتها وهي تمتد من داخل الاراضي السورية حتى مسافات بعيدة داخل الاراضي التركية، وهو ما عاد ليؤكده في مؤتمره الصحفي المشترك مع نظيره الفرنسي فرانسوا هولاند في الكرملين يوم الخميس الماضي، حيث اشار الى " استمرار تستر تركيا على الإرهابيين وعلى اتجارهم غير الشرعي بالنفط والبشر والمخدرات والتحف الفنية، والى وجود من يواصل الحصول عن عائدات بمئات الملايين، بل ومليارات الدولارات من ذلك". وكان بوتين أشار الى ذلك خلال قمة العشرين في انطاليا التركية في معرض حديثه عن تورط أعضاء في قمة العشرين في علاقات مشبوهة مع "داعش" وغيرها من التنظيمات الارهابية الاخرى. ونضيف الى ذلك ما سبق ورصدته موسكو وحذرت منه حول تدفق اللاجئين من سوريا والمناطق المجاورة عبر الحدود التركية الى اوروبا، ومعها عناصر "داعش" وغيرها من التنظيمات الارهابية التي قال الرئيس بوتين في حينه انها تحمل الشر الى اوروبا، وهو ما شهدنا عواقبه في فرنسا وبلجيكا مؤخرا. ولعل القاصي والداني على علم بما تعرفه موسكو جيد المعرفة حول ان تركيا كانت ولا تزال الملجأ والمأوى للكثيرين من ارهابيي الشيشان والقوقاز الذين هربوا اليها في أعقاب حملة بوتين ضد الارهاب مع مطلع القرن الحالي. ويمكن ان نضيف الى ذلك ايضا ان موسكو لا يمكن ان تكون غافلة عن طموحات "السلطان الاعظم" واماله في بعث الامبراطورية العثمانية الجديدة وانتزاع الاعتراف باعتبار المناطق المجاورة لتركيا ضمن دائرة نفوذه ومصالحه. ورغم ان الوقت قد يكون غير مناسب للحديث عن عدم صحة تغاضي موسكو عن الكثير من اخطاء وخطايا اردوغان في اطار اعلائها للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية، فان الوقت يمكن ان يكون اكثر من مناسب للتساؤل عن الحد الذي يمكن ان تذهب اليه لدى معالجة الموقف الراهن، على ضوء تراجع اردوغان واعلانه عن رغبته في "التصالح" بعد ان اعرب مؤخرا عن "اسفه وحزنه" تجاه اسقاط القاذفة الروسية وقتل احد طياريها، وإن حاول اتهام روسيا باللعب بالنار. وكان اردوغان كشف عن رفض الرئيس بوتين الرد على مكالماته الهاتفية طوال الايام القليلة الماضية، فيما تقدمت انقرة بطلب رسمي عبر وزارة الخارجية الروسية بطلب اعداد لقاء مع الرئيس بوتين على هامش قمة التغيرات المناخية التي تبدأ اليوم الاثنين في باريس. فهل توقف موسكو عجلة العقوبات التي اعلنت عنها وبدأت في تطبيقها، ومنها وقف عدد من المشروعات الاقتصادية والتوصية بعودة سائحيها من المنتجعات التركية، وحظر السفر الى هناك والغاء نظام التأشيرات المفتوحة بين البلدين؟!. وثمة من يقول ان اردوغان الذي كان يطمح في زيادة حجم التبادل التجاري مع روسيا من قرابة الاربعين حتى مائة مليار دولار، يقف على مشارف كارثة اقتصادية يمكن ان تحل باقتصاد بلاده بعد اعلان الحكومة الروسية عن قائمة العقوبات التي قد تطال مشروع بناء المحطة النووية في تركيا بما يعادل عشرين مليار دولار، فضلا عن وقف خط الغاز "التيار الجنوبي"، وعشرات المشاريع الاقتصادية الكبرى، واغلاق سوق الاستثمارات المشتركة وحركة البناء والعقارات في روسيا والتي يعمل بها عشرات الالوف من الاتراك، فضلا عن توقف حركة السياحة بكل ما كانت تدره من مليارات الدولارات. لكن الاهم والاخطر قد يتمثل اليوم في تغير ميزان القوى على ارض الواقع بعد تكثيف روسيا لترسانتها العسكرية في المنطقة، والدفع الى المناطق المتاخمة للحدود التركية باخطر منظومات الدفاع الجوي "اس-400" التي لا مثيل لها في العالم، ويبلغ مداها الى مسافة اربعمائة كيلومترا داخل الاراضي التركية بما يمكن ان يشل حركة كل قواتها وقوات الناتو الجوية (!!) . ولعل ما صدر من تصريحات عن الناتو وواشنطن من تحذيرات من مغبة التصعيد يمكن ان يكون تهديدا مباشرا لتركيا باحتمالات عدم الوقوف الى جانبها في حال اصرار اردوغان على الاستمرار في مثل هذه المغامرات، وهو الذي قال مؤخرا "أن تركيا ستخترق المجال الجوي لسوريا، في حال وجه الطراد "موسكو" أو "إس – 400" ضربة مضادة فستبدأ الحرب". ونقلت وكالة انباء "تاس" عن صحيفة"وول ستريت جورنال" الامريكية "تحذيرات واشنطن للجانب التركي من مغبة التعرض لرد أوروبي "قاس" إذا ما تقاعست في ضبط حدودها واستطاع الإرهابيون تنفيذ هجمات جديدة على أوروبا". وكانت واشنطن "طالبت أنقرة بتكثيف انتشار قواتها على الحدود مع سوريا بما يمنع تنقل عناصر "داعش" بين البلدين ونزوحها في نهاية المطاف إلى أوروبا"، وهو ما كان بوتين حذر منه في حينه . ونقلت "وكالة "تاس" عن الصحيفة الامريكية ما قاله "مصدر مطلع في الإدارة الأمريكية" حول ان "شروط اللعبة قد تغيرت، ولا بد من إغلاق الحدود، حيث بات خطر المسلحين يحمل طابعا عالميا بعد نزوحهم عن سوريا قاصدين أوروبا عبر الأراضي التركية". واضاف المصدر الامريكي "أن المسئولين الأتراك تعهدوا ببذل جهود إضافية لضبط الحدود، فيما شدد الجانب الأمريكي على ضرورة نشر أنقرة ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي ودعمهم بقوات من المدفعية والمدرعات لضبط الحدود في القطاع المذكور". ونضيف الى ذلك ما حذرت منه وزارة الخارجية الأمريكية بشأن اعتقال صحفيين تركيين، ومطالبتها لانقرة بتامين حرية الكلمة وعدم انتهاك الدستور التركي وحرية الصحافة. والان .. وحسب اعتقادنا فان موسكو لن تقبل باقل من الاعتذار الرسمي الصريح عن الحادث والاعتراف بالخطأ ودفع التعويضات اللازمة، فضلا عن فك الارتباط القائم مع "داعش" والتنظيمات الارهابية واغلاق الحدود التركية في وجه مقاتليها والتوقف عن الاتجار غير المشروع معها، والكف عن دعمها بالسلاح. وكان الناطق الرسمي باسم الكرملين كشف صراحة عما يمكن ان تمضي اليه موسكو في مواقفها دون الاشارة صراحة الى ما يمكن اتخاذه تحديدا من خطوات عملية بقوله: " ان الرئيس بوتين يركز اهتمامه حول الموقف بالغ الحدة في العلاقات الروسية التركية في ظل ظروف التحديات غير المسبوقة ضد موسكو. وليس ثمة شك في ان الرئيس متحفز ومهيأ نفسيا حتى الحد الذي تفرضه الظروف الراهنة غير المسبوقة . فالتحديات القائمة لم يسبق لها مثيل ، ومن هنا فان رد الفعل سوف يكون على قدر مستوى هذه الاخطار والتحديات". ومن هذه الكلمات التي حرصنا على ترجمتها بكل الدقة من الروسية، يجب ان ننطلق في محاولاتنا لاستيضاح احتمالات وابعاد رد فعل الكرملين تجاه ما جرى وسوف يجرى من تطورات لاحقة.