ويمين الله أنا كنت راجعة من سفريتى على ملا وشى لأجل ألحق بلجنة الانتخابات بدائرتى في يومها الثانى بدافع ناصع البياض سليم الطوية والنية جياش العواطف كثير الدعاء، يملأ جوانحى بالغبطة والحماسة والوطنية والشجاعة والرفعة والحرية والسؤود والشموخ والتكافل والترقى والوداد والسمو والدماثة والوئام والفصاحة والسماحة وروح القانون والسلام.. مشاعر كانت تدفعنى دفعاً للخروج من بياتى الشتوى لترميم الجراح لأقوم أفز أهب أنهض انتفض انفض عن كاهلي ثوب البيات والوهن والاكتئاب والمرض والشرنقة والملل وذلك بمجرد دخولى لجنة الانتخاب وانفرادي بحرية الاختيار لاختيار القائمة التى يزينها اسم العزيزة الغالية المحترمة الصامدة المستشارة تهانى الجبالى.. و..ولكن.. ولكنى أسفت وحزنت وانخذلت وتهت وانهزمت وندمت علي ما فعلت من قطعى لمهمة ترميم جراحى بالتنائى والبعد عن صباحات وأمسيات الكوارث والزلازل والفتن ونوبات النكسة والمكنسة وصراعات الأقزام، وذلك بعدما قالت ابنة الجبالي ما قالته في حق من لمست وشاهدت بنفسى جبال وطنيتهم عن قرب، مع اختيارها الذى لا تحسد عليه وبئس المستشارون للتوقيت المثالي لضرب ترابط المصريين فى مقتل!!.. وكان الأفضل لك يا سيدتى المستشارة الجليلة يا نجمة المحافل في ظل اللغط الدائر أن تزيحى بعيدا عن منصة مؤتمرك الصحفي المفاجئ والمثير الذى قلب الموازين تجاهك رأسا على عقب ميكروفون قناة المنار المتصدر الذى قلّما وُجد مؤطرا فوق المنصات الأُخر.. وليه يا تهانى تحبطينى وانت اللي كنت لىّ بمثابة زهرة البنفسج؟!.. «بيايا» ماسبيرو الكلمة صحيحة بيايا وأبدًا لم أخطئ فى العنوان، والأصل فيها «بقايا» ومنبتها مدينة برشلونة بأسبانيا أيام الفتح العربى عندما كان السادة والأمراء ينتهون من تناول ما تحفل به موائدهم العامرة من أطباق ومشهيات فتُجمع الفتافيت والبواقى لتقديمها حطاما خلطبيس لملء بطون العبيد، وعلى مر الزمن وانحسار اللغة العربية في أرض الفرنجة تحول اسم وجبة البقايا إلى طبق البيايا المجهز بالتحابيش والذى منه لزوم التمويه على المذاق الأصلى ليتصدر المائدة الأسبانية كما ستتصدر بيايا القنوات الخاصة بمذيعيها وأفكارها وأنوارها وضيوفها وشطارها شاشة ماسبيرو في خطته الجديدة للإعلام القومى التي نادى بها السيد الرئيس للتطوير ووعد بتنفيذها عصام الأمير الذى أخذ يفتش ويفتش وينخل ويدقق وينبش وينكش ويستنفر، ويستفزه أبوحفيظة، ويطبق على نفسه 43 ألف موظف، ويطير فى الهواء بث 20 قناة تابعة له، فلا يجد للتجديد سوى أسلوب الإعارة.. لا أن يعير للغير كفاءات من عندياته، بل أن يستعير من الغير كفاءاته لعندياته.. ومن هذا المنطلق رسم خطته الجديدة القديمة من الجاهز علي الساحة الدليفرى فعلى سبيل المثال قام في برنامج التوك شو بتوزيع أيام الأسبوع علي نجوم القنوات الخاصة مثل الاستاذين لميس الحديدى وخيرى رمضان وخالد أبوبكر وإبراهيم عيسى وجمال عنايت الخ.. واستعان في إنتاج البرامج بإيهاب طلعت منتج «البيت بيتك» القديم وعلى هذا المنهج الإتكالى الانتدابى الاستعارى الاستدانى السَلفنجى المديونجى الشحتاوى يسير مؤشر التطوير الذى قد يؤدى لا سمح الله إلى الموت الإكلينيكى لماسبيرو.. ويا سيدي دوق برشلونة والله ولا لِك علىّ حلفان محال أن يعطى صاحب البيت خلاصة خبرته للجيران، ولا أن يبذل الكاتب عرقه وجهده في مقال استضافة خارج الجرنال، ولا أن يعرض الفنان لوحة لها اعتبار عنده في المعرض العام..
مافيش مشكلة خالص! قالها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».. ذلك القول النبوى الشريف الحصيف الكاشف المطلع وجدته يملؤنى بأصدائه عندما جلست مبهورة أشاهد النجم الكبير محمد صبحى في إحدى حلقاته الجديدة المغموسة فى مشاكل الوطن من القاع إلى السقف.. تجول صبحي كعادته بين جمهور الحاضرين في القاعة لينقل لنا على الطبيعة فى حلقته حول تدهور مستوى التعليم فى مصر نماذج لمعدلات الثقافة العامة بين خريجى الجامعة من الجنسين فتجلى التدنى واضحا من الإجابات بأن «هتلر» اسم محطة مترو، و«زويل» اسم دواء للشرايين، وتلميذ المدارس السوبر يكتب عنوان موضوع الإنشاء «في هب مصر».. وارتأى صبحى لمكتب التنسيق لقب «مكتب التزوير»، وطلعة الشهر على المدرس الحكومى تتدنى خجلا أمام طلعة أيتها سمكرى لتسليك بالوعة المطبخ.. ويعرض صبحى البارع دوماً ملخصاً للمشكلة في برشامة قبل الأكل ليقدم لها حلا مبتكرا في برشامة بعد الأكل وذلك داخل توليفة أخّاذة ناقدة بلا جراح، كاشفة دون كشف العورات، ساخرة دونما نصب العداء، مصارحة من غير استعداء للأمن أو استدعاء للقضاء.. قدرة ومقدرة يخرج بها صبحى لنا متحدثا وقورا، وكوميديانا ساخرا، وواحدا من بين الصفوف يقول لنا رغم الغرق في بحور المشاكل إنه مافيش مشكلة.. فلا يصنع مشكلة، ولا يهدم صرحاً، ولا يكون أداة في يد أحد، ولا يقف في صف الطابور الخامس.. ونضحك مع صبحى.. لكنه ضحك كالبكاء!!
عبدالرحمن بدوى.. وأسمهان ألا تصل إلى وصال الحبيب.. أن تحلم به فينتزعونه عنوة من حنايا حلمك.. يحملكما العشق علي جناح الهوى لسماوات الغرام فيأتى غراب البين يطارد النسيم ويخنق البلابل ويئد النجوم ويصرع القُبلة ويذُل النجوى ويبنى عش الخراب.. ألا تطول حبيبك.. أن يغدو بعي ي ي يدا عنك.. ألا تدندن معه.. ألا يحتويك ويناجيك ويرحمك ويقسو عليك ويخاصمك ويصالحك ويبعدك ويقربك ويسمع لك.. ألا ترقد يده في حضن يدك.. ألا ترفع عينك إليه.. ألا يمسح دمعك ويروى ظمأك ويسكن أذنك ويغشى صدرك ويفتن لحظك.. ألا تلمس سطحه وتسبر غوره وتفشي سره وتنهل قوله.. ألا تتزوج من تحب ويكتمل ارتباط الروح والعمر والجسد.. ألا... منتهى القسوة. والبتر بسكين صدئه، الإعدام حيا، الخواء الداخلي والتصخر الخارجى.. وتسير عبر الحياة بلا مقصد، وتعبر الطريق بلا هدف، وتذهب لبيت بلا أهلية، وتطالع أوراقا بلا هوية،وتغرق في النوم طوبة، وتجلس بين الناس بومة، وتوصد الشباك وتُنزل الأستار ويغدو طعامك بلا طعم ومذاقك صبّار والفرحة قرحة والحزن أعماق والأمس بمثل الغد واليوم وأول الأمس، وتغدو القرابة فاترة وصلة الرحم محنطة والصداقة عابرة والزمالة بلا التزام.. ويُطمس العنوان ويَضيع الطريق ويخبو شعاع الضوء الوحيد في نهاية النفق.. ولا تتفاعل مع شموس الفجر وأقمار المساء وسحابات الصيف ومشارف الربيع وثغاء الطفولة وذروة الأنوثة وذكريات الكهولة. استشعرته مدفونا بداخله هناك في السرداب النائى البعيد.. حبيب لم يفز بحبيبه.. قصة غرام تاريخية مبتورة رسمت آثارها على حياة صاحبنا نتوءا وحِدة أبلغته مرتبة الحماقة لكنه لم يرفض ذلك الوصف في قوله: «نعتونى بالحماقة وفي الحماقة وجدت عقلي».. ولأن الحبيبة كانت تسكن مع الآخر الذى فرض عليها داخل جدران مصر، اختار الدكتور عبدالرحمن بدوى سكن الغُربة.. عاش من بعد الهجر في المهجر يبحث عن النور الذى خبا في عاصمة النور، ولأنه ليس ككل الناس، ولأنه الفيلسوف فقد أمضى عمرا لا يبغى بيتا ربما لأنه لم يشيّد مع حبيبة القلب بيت عمره، لهذا أمضى خمسين عاما نزيل فندق «لونسيا» بباريس من عام 1945 حتى عام 2001، ولم تزل متعلقاته هناك في غرفة كان يدفع فيها 350 جنيها يومياً ضمت مسودات 120 كتابا وشاهدت جدرانها معارك قلمه مع أرسطو ونيتشه وشوبنهور واشبنجلر.. الحب القديم للمطربة أسمهان لابد وأن الزمان العاتى قد غلف جرحه بصفائح الدم وحراشيف الأيام ليغدو ناموس الحياة وصراط التتالي ومنهج الأيام الصحو من النوم للدوران على المكتبات والعودة للنوم وجولة أخرى على المكتبات وعودة للقراءة حتى النوم عندما يحل الإرهاق فيغلف السكون الجرح القديم وجراحا حديثة أحدثها الدكتور بحدته مع الناس، وجراحاً من ردود أفعال الناس. فى حياته لم يُذع ذلك الحب.. في مؤلفاته لم يكتب هذا الحب، حتى في حوار الأشقاء من بعد موته لا تجدهم يذكرون إلا أنه كان يرفع شعارا بأن الزواج عدو للعلم، ويرى أنه لابد وأن المرء يعيش لأجل شىء واحد إما العلم أو الزواج.. لكن ذلك الحب وجدته عنده باهرا، وتلك الرومانسية الغائبة في مظهره ومحضره قرأتها بعينى رأسى له هادرة وإن جاء في زمان متقدم في شرخ شبابه فى 1946 عندما عاد فجأة للقاهرة بعد غياب في باريس ليتوجه رأسا لزيارة قبر أسمهان التى ارتشف من رحيق صوتها تغنى للأحبة، وكان مبتغاه أن يسكن زمنا بجوار مرقدها ويستعيد الزفرات الحارة والآهات الموجعة وذكريات الشجن، لكنه خرج من زيارته حزيناً علي ما جرى لأسمهان وللفن وأهله فى بلده.. مضي من رحاب أسمهان يردد معها في ذكرى ميلادها في 25 نوفمبر 1912«يا حبيبى تعال إلحقنى شوف اللى جرى لى.. أسمهان.. نويت أدارى آلامى، واعمل إيه علشان أنساك، وليت للبراق عينا فترى ما جرى لى، واسقنيها بأبى أنت وأمى، وامتى حتعرف إنت إنى باحبك إنت، ويا فاتنة الدنيا وحسناء الزمان، وليالى الأنس في فيينا، ويا مين يقول لي أهوى أنا أنا أهوى، وهو من حبه فيها غنى لها لحن الوصال، وسادل جناحه عليها وقال لها يا ملاكى اللي تعوزيه اطلبيه، يا بنت النيل وأخت الهرم، لكنها ساقت عليه الدلال وطارت ما سألتشى فيه، وخلّفت له العذاب، مسكين يا روحى عليه، قلبه من الحزن داب، وخرج صعبان عليه، حالته تبكّى الجماد، حفظ ودادها وهي خانت عهود الوداد.. واليوم رجعتلك يا حبيبى»... ودعونى أنقل لكم كلمات الفيلسوف عندما خرجت مشاعر الحب غصباً عنه تنزلق عبر السطور لتفضح المكنون الذى ظل مستورا 56 عاما.. كتب الدكتور عبدالرحمن بدوى أستاذ الفلسفة بجامعة فؤاد الأول في مجلة الحقيقية تحت عنوان «وقفة علي قبر أسمهان»: «نسائم الربيع الهائج تنثال في الصباح الموحى من جبال المقطم على هذا الحى العتيق من أحياء قاهرة المعز فتخفق في النفس من دفع هذا الضجيج الشائك: الذى ينطلق من حلوق الباعة علي تعدد ألوانها: ومن حديث يصارع المكان في عناد كالح يتمثل في هذا الصرير المتحدي لكل الأسماع، وكنا قد بلغنا القلعة وصرنا في ميدانها نستشرف إلي المساجد السامقة بطرازها المتكتل الرائع الذى تجلى فيه المعمار العربى، فسألنى السائق: ثم إلى أين؟ فأجبت: إلي مقابر الإمام الشافعى حيث قبر أسمهان. وسلكنا الطريق الذى دلنا عليه الناس بعد عناء، وكان زرياً تكاد تعرشه الأبنية المتحطمة المتهالكة حتى لتحسبها بناء واحدا لولا نوافذها التي ما هى إلا خروق ضيقة لا تكفي لإخراج الرءوس، ومن تحتها المقاهي الهزيلة يتكدس علي مداخلها أكثر أهل الحى في يوم الجمعة، هذا اليوم الخالى من الأعمال، حيث يدوى في الأرجاء المتعانقة صوت المذياع وقد انطلق حتى آخر وتر في حنجرته ومن غريب الاتفاق أن الأغنية التى كان يذيعها أثناء مرورنا بهذا الطريق كانت أغنيتها المشهورة: «يا حبيبى تعال الحقنى! شوف اللى جرى لى..» فاستمعت إليها جزءا جزءا من مقهى إلي مقهى وأنا في السيارة وتوجست منها جزعا فهتف هاتف فى أعماقى: لبيكِ.. لبيكِ فنحن في الطريق إلى قبرك يا أسمهان. ياالله، لماذا هذا النداء الرهيب الذى هزّ كل كيانى، وما كتم النفس أنى كنت مغتبطا لهذه الزيارة إلي قبرها، وأتوقع أنى سأنعم في حضرة جثمانها بتلك المتعة العميقة المليئة التي طالما ظفرت بها في زياراتى العديدة لمشاهدة أهل الفن إبّان قيامى بأوروبا هناك حيث أضرحتهم الأنيقة بجوها الملىء بالأسرار وما نسِّق حولها من أزاهير سقيت من عبرات المعجبين وآهات إعجاب كامنة فى الصدور يسامر أصحابها ساكنى القبور علي مر الدهور والسنين، والوافد منا من الحجيج يقفون إلي جوارها خاشعين مستلهمين هذه الأرواح النورانية التى حيت في مماتها حياة أحفل وأروع منها إبّان مكثها على الدنيا، ولكن أين من هذا كله ما ينتظرنى عند قبر أسمهان. لبيك..لبيك أيتها الشادية العزيزة، أفما كان لي أن أنتظر غير هذا، أنا الذى سألت أهلها عن مكان قبرها فلم يحيروا جواباً وسألت من حطموا شبابها واستنزفوا آخر قطرة من فتنتها وجمالها، ففريق سخر وتهاتف، وفريق ظننى من المعتوهين والمغرورين. فما كدت أصدق ما سمعته أذناى منهم، وامتلأت نفسي هماً وغمًا، ولكنى لم أعدم الأمل في الظفر بمن يدلوننى على قبرها فبينما كنت أضرب فى أزقة القبور على غير هدى وبكل عناء في الاستطلاع ناديت وقد استيأست غلاما فما هممت أن سألته حتى اندفع بقوة وثّابة واندفع معه الغلمان الذين انهالوا علينا صائحين في نبرة حارة مؤثرة: ومن لا يعرف قبر أسمهان؟ جواب ساذج برىء كان عندى أبلغ رد علي أولئك الساخرين والمتجاهلين الذين كانوا أجدر الناس بالسير علي ذكراها وقد بذلت لهم كل ما في روحها من فن وما في يدها من مال. فلُمْتُ نفسى علي توجهها إلي هؤلاء، وعلى أنها لم تدر أن الجميل يجب ألا نتفقده عند أولي الناس بعرفانه، أولئك الذين إذا قرأوا لك كتابا جديدا أو سمعوا لك لحناً حديثاً أو رأوا لك أثرًا فنياً أتممته لا يبعثون إليك حتى برسالة إعجاب، ولا تنطق ألسنتهم الكاذبة المنافقة بكلمات الثناء الرخيص في المحافل الواسعة، بل يرسلون في أعماقهم زفرة حقد تُغلق أفئدتهم بالسواد.. إن الحقيقة لن تجدها إلا لدى أولئك الصامتين وفي صمتهم أبلغ منطق والساذجون وفي سذاجتهم أعلي حِكمة، من أمثال أولئك الغلمان الذين دلونى علي قبر أسمهان. فمضينا إلي حيث دلنا هؤلاء الصغار الذين عرفوها وأحبوها وقدروها دون أولئك الكالحين، وكانوا قد تواثبوا علي السيارة يود كل منهم أن يكون له شرف هذا العمل النبيل لذكرى من أخلصوا في عشق فنها، فتزاحموا على رفارفها وسقفها ومقدمتها لولا أن زجرهم السائق بصوته الخشن الذى لم يفهم من فعلة أولئك الصغار إلا أنه عبث صبية أو طمع فى الظفر بهبة منا واكتفينا بأكبرهم، ومع هذا فقد أبوا إلا أن يتابعوا السيارة عدوا بكل ما أوتوا من قوة حتى استطاعوا اللحاق بنا بعد لحظات حينما توقفنا عند بناء لا يقع في ظن أحد أنه مقبرة، ناهيك بمقبرة فنانة لم يخلق لها مثيل في الغناء، وقال دليلنا: ها هنا قبر أسمهان. ارتاعت نفسي من هول ما رأيت؟ بناء عادى مكون من غرفة واحدة شبه مربعة علي هيئة المنازل المنتشرة عندنا في الريف له باب طويل مطلى بالأحمر القانى المائل إلى البني يتخلله أصفر طفالي حُليت به القطع المتوسطة من الباب وله أربعة جدران مبنية بقطع كبيرة من الحجر الجيرى، وليس فى داخله غير مصطبة ترتفع عن أرض المقبرة بما يقرب من متر، وقد طُليت بالطين شأنها شأن الأرضية، وياليتها تُركت تقوم بنفسها، بل عمل لها درج من ثلاثة مدارج، سألت عن السر فيها فأجاب حارس المقبرة إنها لكى يصعد عليها الغلام لتنظيف سطح المقبرة فكانت أشبه بمنصة الخطيب وحقاً، ما كان أبلغه خطيباً قبر أسمهان. أوّاه أما من شجرة تُسامر الحبيب في هذه البقعة الرهيبة القاحلة؟ أما من زهرة تبكي بكاها الدافئ على شقيقتها التي اقتطفها الغدر في ريق نضارتها تخليصاً لها من أولئك السفاكين الذين اغتالوا فنها وجمالها؟ أما من عريش كرم أو لبلاب أو ما شئت من الأشجار المتسلقة يحمى قبرها بظله الظليل من هذا اللهيب الذى يتدفق عليه دون أن يحميه سقف، أما من عين جارية تنبع حتى من هذه العبرات الساخنة التى ذرفتها مدى حياتها وحملت العيون الحالمة والقلوب الرقيقة والنفوس المرهفة علي هيامها بتأثير فنها الحزين العميق؟ أرادوا.. ولكن.. لا.. اعلموا جميعاً أيها المخلصون أننا سنروى بدموعنا قبر أسمهان. هلمُّوا إلىّ أيها الأصفياء فنحن وحدنا الخليقون بالعرفان فأنت أيها الفتى القادم لقبرها يوم مولدها الذى عرف حبها في أعلى مجاليه، تظفر بالنعيم من أعاليه، ثم فرّق الزمان بينه وبين من أحب فصار يقضى العمر كله من بعده في هوان، وأنتِ أيتها الفتاة التي أرغمت على الاقتران بمن لا تحب، وباتت تسامر الليالي وهى تبكى في هذا الأسر الأميرى، أسر الزوجية المغتصبة، ولم يكن لها ناصر من أبويها ولا من أهلها غير أخيها العازف الشادى فلم تجد ما يعزيها غير أن ترسل لي نجواها الساهرة بنداء حار.. ليت لأخيها هذا عيونا فيرى ما تقاسى من بلاء وعناء إنها لا تعرف غير من أحبت بقلبها، فمهما غللوها وقيدوها وفعلوا بها كل ما شاءوا جميعاً من بلاء فإنها كارهة لبغيتهم، حتى أن مرير الموت في فمها قد حلا، وأنتما أيها الحبيبان اللذان بسط الحب عليكما جناحه ونعمتما بالارتياض فى جنته، هل لديكم عزاء علي بلواكم بعد أن رقدت في قبرها أسمهان؟ ليس لدينا جميعاً إلا أن نذرف مُر العبرات، وهاآنذا أقدم إلى قبرها أول قربان، فتعالوا ضموا دموعكم إلى دموعنا حتى يتكون ينبوع دائم الجريان نسقى منه شجرة الفن الشهيد التي ستلقي بظلها الوارف علي إحدى بناته المستشهدات الخالدات الباقيات ما بقي قلب لا يستثمر لذة الحب إلا في غمراته، وموجود لا يجد للوجود معنى إلا في تنهداته وتوتراته، فلقد كانت حياتها آية لهذا كله، وجاءت ألحانها زفرة حارة أطلقها الوجود في إحدى لحظات توتره.. ولم تذهب بموتها، لا بل إنى لأحس بتلك الزفرة وأكاد ألمسها وهى تنبثق حارة من قبر أسمهان. أيها القبر لقد شيّدوك مصطبة من الطوب المطلي بالطين، وتركوك عاريا من كل تزيين، وبخلوا عليك بالأشجار والأزهار والرياحين، ومع هذا فمن منصتك الحقيرة هذه ينطلق خطيب الحِكمة الخالد عبر السنين من فمها العذب الراقد في طيات الطين.. فى زحمة الحياة الزائفة ضللت الطريق لأنى لا أتعلق منه إلا بالبريق، فلم أعرف من الكاذب المنافق ومن هو للفن خير مخلص وصديق، فإليكم أهل الفكر والفن هذا الحديث أسوق: لا تحفلوا بالبريق وأمضوا في رسالتكم وحدها مهما طال وتوعر الطريق، ولا تتفقدوا المخلصين إلا فى النهج العميق.. آه ما كان أبلغ حكمتُك في نفسى يا قبر أسمهان»!. ■ ملحوظة: لكل من بلغ معى نهاية زفرات وتأوهات وآهات الراهب الفيلسوف عبدالرحمن بدوى، في حب أسمهان.. معذرة.. فلم أستطع من ناحيتى تبسيط مفردات الفيلسوف، والسبب الوحيد أنه وببساطة فيلسوف.. وسامحونى نيابة عنه وإن لم يطلب الدكتور بدوى يوماً السماح، لكن مئوية اسمهان فرضت علينا كشف المستور وطلب السماح! لمزيد من مقالات سناء البيسى