مما لاشك فيه أن ما شهدته فرنسا الأسبوع الماضى يفصح عن شكل من أبشع أشكال الإرهاب الأسود الذى لا تأخذه رحمة بضحاياه، وهو طبقاً للمواثيق الدولية والقوانين الداخلية - بما فيها القانون الفرنسى - يشكل أعمالاً إجرامية إرهابية لا يجوز الخلاف حول وصفها،إلا أن ذلك لم يكن توصيف الرئيس الفرنسى لها، فأطلق عليها بدون تردد «أعمالاً حربية» بكل ما تحمله هذه العبارة من مضامين قانونية، تخرجها من إطار القانون الوطنى إلى قوانين النزاعات المسلحة، وأعلن حالة الطوارئ بالبلاد، وعن رغبته فى تعديل الدستور الفرنسى، للتوسيع من صلاحيات السلطة التنفيذية فى مواجهة الإرهاب، والتمهيد لشن ضربات عسكرية مكثفة خارج الأراضى الفرنسية. ومن الجدير بالملاحظة فى هذا السياق أن ما أجازته حالة الطوارئ هذه من صلاحيات استثنائية أيا كانت المدة المحددة مبدئيا لممارستها يتجاوز بكثير- فى اتساعه الجغرافى وفى مقداره النوعى - ما تجيزه دول أخرى ومنها مصر برغم ما يحيط بمصر ويحاصرها وتعانيه من استهدافات تخريبية وإجرامية ومن أحداث إرهابية من الداخل والخارج. و ذلك التوجه من الرئيس الفرنسى يُذكًرنا بأحداث الحادى عشر من سبتمبر 2011 التى تم بعدها إعادة صياغة قواعد القانون الدولى وتصميمها على نحو يخفف من شروط استخدام القوة فى سياق مفهوم «الحرب ضد الإرهاب» الذى اتخذته الولاياتالمتحدةالأمريكية ذريعة لشن الحروب على الدول وتدمير الجيوش، ثم القيام بضربات استباقية مستمرة ومتوالية فى أنحاء عديدة من العالم على الجماعات الإرهابية، كان آخرها الضربة الجوية التى شنتها ضد موقع لتنظيم داعش بليبيا منذ عدة أيام. ومفهوم الحروب الاستباقية يجد أساسه القانونى فى مفهوم «الدفاع عن النفس الاستباقى» الذى يستخدم أساساً من جانب الدول لتوقى هجمات مسلحة من جيوش دول أخرى، وهو يجد شرعيته من خلال القواعد المطبقة على العمليات الحربية. إلا أن مراكز الأبحاث الغربية - خاصة الأمريكية - عملت على التوسع فى مفهوم الحروب أو الضربات الاستباقية، لكى يستخدم ضد الجماعات المسلحة غير النظامية، ويمتد هذا المفهوم لكى يشمل الجماعات الإرهابية. ويرشح ذلك المفهوم الجديد لبزوغ طفرة جديدة فى النظام القانونى الدولى تعمل على تكوين نظام خاص لمكافحة ما يمكن أن يطلق عليه «الإرهاب الدولى المسلح» الذى يدور بين الدول والكيانات الإرهابية المسلحة، ويخرج الأعمال العدائية بين الدول وتلك الكيانات الإرهابية المسلحة من إطار القانون الوطنى، وكذا من وصف النزاعات المسلحة الدولية، بما يسمح باستهداف تلك الجماعات بشتى الطرق والأساليب العسكرية دون مراعاة لقواعد وأعراف الحروب. ولذلك فلم يتردد الرئيس الروسى عن ذكر المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة التى تخول الدول استخدام حق الدفاع الشرعى متى تعرضت لهجوم مسلح، وذلك فى معرض وعيده بالرد على حادث سقوط الطائرة الروسية فى سيناء، وهذا تطور خطير للأحداث. إذن فمفهوم الضربات الاستباقية ضد الإرهاب بدأ تطبيقه على أرض الواقع فى أجلى صوره بلا هوادة، ومن الواضح أننا بصدد موجة عاتية من الضربات الاستباقية قد تطال الأخضر واليابس على أراضى الدول العربية، لا يعلم أحد مداها ولا منتهاها، ولا عدد ما سوف تخلفه من ضحايا أو خسائر. فى دراسة حديثة لينشرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية تحت عنوان «مواجهة الإرهاب فى سيناء:استراتيجية الضربات الاستباقية» أوضحت أن التعريف الوطنى المتاح للإرهاب لم يعالج بطريقة واضحة حالة لجوء الجماعات الإرهابية التكفيرية للأعمال العدائية المسلحة فى مواجهة سلطات الدولة، والتى تعجز منظومة مكافحة الإرهاب التقليدية عن التعامل معها، لكونها تخضع لمنظومة استخدام القوة المسلحة التى تنظمها قواعد قانونية مختلفة. ومن الواضح أننا نواجه فى سيناء نوعا غير تقليدى ومتعاظم الخطورة من الإرهاب لم نألفه من قبل، يخرج عن الإطار التقليدى للجرائم الإرهابية ويدخل فى إطار الإرهاب الدولى المنظم الذى يعتمد القوة المسلحة وأساليب القتال غير التقليدية، تستخدم فيه على نحو غير مسبوق الوسائل والتقنيات العسكرية لمهاجمة المواطنين وأفراد الجيش والشرطة بطريقة ممنهجة وعلى نطاق واسع، وهو لا يستهدف فقط إثارة الفزع وإشاعة الرعب فى النفوس، وهى الأغراض النهائية للإرهاب التقليدي، بل إنه يستهدف الانتقاص من هيبة الدولة وسيادتها الإقليمية ووحدتها الترابية. ومن الواضح أن الجماعات الإرهابية الناشطة فى سيناءتعمل طبقا لأيدلوجية تحكمها دوافع الانتقام وفقا لعقيدة مغلوطة،ولا أساس لها من الدين، بهدف إيقاع أكبر قدر من الخسائر والضحايا. وقد ترتب على ذلك أن أضحت الأدوات التقليدية لمكافحة الإرهاب - الأمنية والقانونية - غير كافية لقمع كل ذلك وضبط ومعاقبة مرتكبيه، ومن ثم فقد حق لقواتنا المسلحة الالتجاء إلى استراتيجية الضربات الاستباقية ضد تلك الجماعات. ولها أيضاً توجيه ضربات عسكرية للجماعات الإرهابية الموجودة بأقاليم دول مجاورة تستعد لشن هجمات إرهابية داخل الإقليم المصري، وذلك عند ثبوت دعم الدول التى تؤيها لها أو فشلها، أو عدم قدرتها على ردعها عن ارتكاب هجمات إرهابية ضد مصر. وفى حقيقة الأمر فإننا يجب أن نشيد هنا بعظمة الشعب المصري، وقوة جيشه الباسل، لأنه إذا كان حدث إرهابى واحد فى فرنسا قد قلب القارة الأوروبية رأساً على عقب، فما بالنا فى مصر ونحن نتعرض لسلسلة من الأحداث الإرهابية من الداخل والخارج، ومازلنا صامدين. وإن الأحداث الأخيرة قد أكدت أن الضربات الاستباقية التى بادرت بها القوات المسلحة المصرية ضد الجماعات الإرهابية المسلحة، والتى حاول البعض التشكيك فى نتائجها، قد ساهمت فى إحكام السيادة الميدانية الكاملة للقوات المسلحة المصرية على سيناء. كما أكدت أيضاً أن الجيش المصرى يحترم أعراف وقوانين الحروب والقيم الأخلاقية حتى فى تعامله مع الجماعات الإرهابية المسلحة، وهذا ما يميز الجيوش العريقة عن الجيوش التى نشأت فى دول حديثة تستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية للتنكيل بأعدائها دون مراعاة للجوانب الإنسانية. ولعل العدد الغفير من المدنيين الذين سقطوا فى أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان وغيرها من جراء الهجمات المسلحة الاستباقية هو أكبر دليل على ذلك. لكل هذه الأسباب لا يسع الشعب المصرى إلا أن يقدر التضحيات الغالية التى يبذلها رجال الجيش المصرى الباسل لمواجهة العناصر الإرهابية المسلحة فى سيناء، والجهود التى بذلها وما زال يبذلها لإجهاض كافة المحاولات الخارجية للتدخل فى قطعة غالية علينا من أرض مصر. حفظ الله مصر... لمزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد