الدكتور محمد المنسى قنديل الطبيب النابه والأديب والروائى اللامع فارس مغوار من فرسان قوى مصر الناعمة قادم إلينا من ريف المحلة الكبرى واحدة من قلاع مصر الصناعية العملاقة. هذا .. وتعد روايته «الكتيبة السوداء» آخر أعماله الروائية ، ويتحدث فيها عن كتيبة مصرية حاربت تحت لواء الجيش الفرنسى فى المكسيك عام 1863 م ، وذلك عندما طلب الإمبراطور الفرنسى نابليون الثالث من الخديو سعيد باشا مساعدته فى حربه على المكسيك ، فأرسل الخديو كتيبة عددها 500 جندى ،تم تدريبها وتجهيزها وإرسالها إلى المكسيك ، فى رحلة شهدت كثيرا من المعاناة المريرة. وهكذا يبدأ الصراع فى البلد الذى يشهد الكثير من العنف .. وتدور مجموعة من الأحداث التراجيدية تشهد تنصيب ماكسيميليان النمساوى إمبراطورا على المكسيك. وبعد حدوث مجموعة من المفارقات تأتى النهاية التراجيدية بإنسحاب الجيش الفرنسى ، وينتهى مصير هؤلاء الجنود إلى الغموض ومسحة من المأساة ، وهذه المصائر جميعها استطاع المنسى قنديل ببراعته وصبره جمعها من كتب التاريخ المتاحة ليعيد صياغتها فى رواية بديعة شديدة الإبهار نجتازمن خلالها بوابة التاريخ حيث نستمع فيها إلى حكاية من التاريخ قام المنسى بتحويلها إلى أسطورة وإلى فن وإلى رؤية متخيلة لواقع غريب عاشه ككاتب ومبدع .. وفى هذا السياق يقدم قنديل رؤيته كمبدع مصرى أصيل هزته وأثرت فيه تلك المأساة، فيشرع فى تجسيد هذا العالم وما حفل به من شخصيات لعبت دوراً أساسيا فى إذكاء الصراع الإنساني. هذا .. وقد حرص قنديل على الالتزام بالأحداث التاريخية وما يرتبط بها من شخصيات تاريخية هادفاً من ذلك إبراز وتحقيق عنصر الصدق الأخلاقى فى روايته ، كما يهدف كذلك إلى مساهمة الحدث والشخصية فى تحقيق الطابع الروائي الفني للرواية ، وقد لمسنا تحقق ذلك بالفعل ، وذلك بنجاح المنسى قنديل فى إضفاء طابع إنسانى على أبطاله ، حتى فى علاقة « الزنجى» بالسيدة الإمبراطورة ، فقد حرص المنسى هنا على إدخال سمات فردية زمنية لهذه الشخصية خاصة بها فى علاقة معقدة جدا ، حية جدا مع العصر الذى عاشا فيه ، ومع الحركة التى يمثلانها ومع الأخلاقيات والأعراف السائدة فى مجتمع المرآة الأوروبي ، وإن تجاوز التاريخ ، لكنه لم يكن التجاوز الذى يضاد الحقائق ويخالفها مادام قد احتفظ ببعض الجوانب التاريخية دون بعضها الآخر ، بخاصة أن هذه الجوانب التى حافظ عليها واستثمرها ووظفها توظيفا دراميا متقنا فى الكشف عن الحدث والشخصية كليهما بما يتلاءم مع رؤيته وفنه وحرفيته وصدقه فى بناء عمله الروائى بناء متقناً ، وذلك بعد أن صرف عناية فنية فائقة فى إبراز ما يخص الصلات الإنسانية والنوازع النفسية. وهنا يتضح أن الشخصية ليست صورة طبق الأصل من الواقع أو التاريخ ، بل يعبر بها فنه وخياله عن الواقع بقدر ماهدف إلى تطوير المعانى الإنسانية ، ذلك أن ما يهم فى الرواية التاريخية ليست إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة ، بل الإيقاظ الشعرى للناس الذين برزوا فى تلك الأحداث وأن ما يهمهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التى أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا تماما فى الواقع التاريخى. كما يبرز هنا فى البناء الفنى للرواية حِرْصَ المنسى قنديل على توظيف عنصر «المكان» وميكنته ليكون له دوره الفاعل فى تدفق أحداث الرواية وإضفاء قيمة الصدق الإنسانى على أحداثها وشخصياتها، ولهذا كله اعتمد كاتبنا على هذا العنصر ووظفه كعنصر أساسى فى بنائه الروائى ليتآزر ويتضافر مع غيره من العناصر الروائية الأخرى كالزمان والمكان والايقاع والعقدة أو الحل. وقد ساعده ومكنه على النجاح فى ذلك لغته الفنية الراقية وما تتسم به من إيقاع موسيقى خلاب ، إضافة إلى إتصالها بالشعر والبلاغة فى بعض مظاهرها. وقد برزا ( الشعر والبلاغة )متآزرين نتيجة تفاعلهما مع غيرهما من العناصر السردية فى الرواية ، مما سما بقيمة الرواية وفاعليتها بالنسبة للمتلقى ، وكذلك فى الكشف عن الواقع ومتغيراته ،بل والارهاص بالمستقبل المرجو. يضاف إلى ذلك حرص قنديل على ربط الإنسان – داخل العمل الروائى – بالإنسان ، ووضع إنسانية الإنسان فى وضعية استثنائية قادرة على أن تكشف عن حقيقته من خلال التركيز الباهر على إنسان الفكرة ، أى الإنسان داخل الإنسان ، لذلك فقد أخضع شخصيات الرواية لمنطق الفعل البشرى. وقد تجلى ذلك واضحا فى عرضه لمشاعر جنود الكتيبة ، وما انتابها من خوف وقلق وتردد وحزن وضعف وقوة ، مما ساهم مساهمة إيجابية فى نموها وتطورها وتآزرها باغترابها فى الزمان والمكان . أما بالنسبة للشخصيات التى تمثل عنصر السيادة والقيادة والتعالى على الآخرين ، فقد أظهرها قنديل وعهد إليها بالبطولة، فأتاح لها حرية أكثر فى الحركة فى فضائيات إجتماعية وسياسية وحضارية. وتجلى ذلك فى حديثه عن الخديو ونابليون وملك أسبانيا وشقيقه . وقد ساهم ذلك كثيرا فى بسط قنديل هيمنته على روايته وأشخاصه هيمنة واضحة كان لها أثرها فى تولد أحاسيس الرضا و القبول لدى قارئها.. هذا... ورغم أن اللمسات الجنسية قد أصبحت توابل فى كثير من الروايات اليوم مابين مسرف ومقتصد ، إلا أن المنسى قنديل قد استطاع أن يتعامل معها بلباقة وذكاء وحرفية فنية ، إشارة ولمحا ، محققا وجود هذه اللمسات الفنية دون استثارة لمشاعر المتلقى أو دغدغة لها ، رغم أنها جعلت المتلقى في مواجهة لهذه المشاهد الجنسية . ومن هنا فقد وفق كاتبنا فى تحقيق آراء فرويد حول غريزة الجنس وأهميتها فى حياة الإنسان ، فقد حاول من خلالها أن يكشف لنا عن النظرة الحقيقية للأوروبيين تجاه الجنس الإفريقى والذى كان مستبعدا آنذاك ، فرسم المشهد الجنسى بين الإمبراطورة أو «البرنسيسة» مع واحد من العبيد الأفارقة من خلال عين الزبير النخاس الذى شاهدهما فى وضع جنسى مروع ، وقدم أو رسم لنا شخصية العبد بواقع فطرى متوحش يقوم على اختلاط أنفاس الغابة بأنفاس البشر المظاليم وبالاعتداء بتحقير الإنسان إلى حد العبودية من خلال عبودية هذه الفرنسية البيضاء بعبودية هؤلاء العبيد الأفارقة واستخدامهم بالنسبة لها كأدوات لتحقيق رغباتها الجنسية. وعلى هذا النحو رسم المبدع « قنديل» هذه المشاهد الجنسية بحرفية بالغة حتى يشعر القارئ أنها غير مقصودة لذاتها ، وإنما أتى بها ليقدم معانى وقيم إنسانية عن علاقة الجنس الأوروبى بالجنس الإفريقى «كعبد». هذا .. وتهيمن على أحداث هذه الرواية لغة سهلة فصيحة مقترنة ببعض الصور الموحية والتى تأتى بغير تكلف ولا قسر ، وإنما هى امتداد لإستغراق الكاتب فى الكشف عن مشاعر شخصياته بطريقة طبيعية تكشف عن تطور مهم يتضح فى هذا التساوق والتجانس بين الكلمات والتركيب .. وظفها قنديل فى يسر كى يكشف لنا عن أدق خبايا الصدور وما تموج به من مشاعر وأحاسيس فى تدفق نفسى ، تتوافق فيه الجمل وتتصل متجاوزة أدوات الربط المعهودة ، فتبدو الرواية وحدة نفسية تتآزر عناصرها البنائية من بيئة وشخوص وحدث وتشويق ، ونقاط تنوير، كاشفة عن فيض من المشاعر الإنسانية التى يتجاوب صداها بين الراوى والمتلقى ، ومتجاوزة حدود الأوراق التي تحملها، محلقة فى أجواء النفوس التى تفيض بها أو تستقبلها.