« وجعلنا من الماء كل شيء حي» صدق الله العظيم (1) لما أمطرت السماء ، أسرعت الخطوات المتلكئة، وهرول الباعة الجائلون لجمع بضاعتهم المفروشة على الرصيف ، فزع السائرون ولاذ من لاذ بجانب أسوار العمارات القاتمة من أثر طبقات الغبار المتراكم على واجهات لافتات الإعلانات وحواف النوافذ ، حتى تهدأ قطرات الرذاذ، إلا أن الزخات اشتدت مكونة بركة وحل على الإسفلت ، ذعر الناس متخفين فى ملابسهم المبللة، وخاف الرجل الواقف اسفل ( البلكونة ) على ولده الذى يحمل فوق ظهره حقيبة مدرسية ، ضمه لصدره ودعا ناظرا للسماوات ... : _ يا رب ارفع غضبك عنا، واسترها يا كريم ..! _ أغثنا يا مغيث..! تأوه شاب فى مقتبل العمر ، وزفر زفرة متأججة بالرغبة ..: _ الرحمة يا عالم ، نحن بشر..!
(2) مع ازدياد زخات المطر ، تكاثفت الغيوم مخلفة عتمة غشت الواقفين ، رعد البرق ، وفاضت أنهار الدنيا بسيل روى الأرض العطشى ، تراقصت أعواد القمح والبرسيم ، وتفتحت عيون نوار الفول ، وانفجرت أسارير خيال المآته الواقف فاردا ذراعيه فرحا بالماء. همس للبراعم ، فأطلت سنبلات خضر .. وما أن شعر الفلاح بطرقات الماء على باب الدار حتى خرج من غمه لندرة الغوث ، وذبول الزرع ، مستنشقا رائحة التراب المندى بالماء الرطب ، اشتدت الزخات مع عزمه على الخروج فنهاه ولده ابن المدارس عن السير فى هذا الجو العصيب خوفا على صحته ، مع إصراره اصطحبه متأبطا ذراعه. قال: يا بنى استبشر خيرا ، فى الماء الطهارة من الدنس والنجاة من المعاصى ، فلا تبالِ بما يقول رجل المدينة ، واهنأ بما نحن فيه من خير أعطاه الله لنا من حياة طيبة . احتضنه محتميا بشجر الكازوارين قائلا: _ وفيها الهلاك والطوفان يا أبتِ ..! واحتموا من السيل فى جذع شجرة كانت الطيور قد اتخذتها ملجأ لها ..
(3) لما سكتت السماء عن سح الدمعات ، تفتحت حدقاتها المغشية بالظلمة ، وهدأت العواصف ، وكشفت الشمس بنورها الدنيا ، تحركت الأقدام الساكنة فوق الرصيف ، غاصت الخطى فى برك الطمى ، واغتسلت أوراق شجر الزينة من عادم الدخان والأتربة ، وكشفت العمارات عن ألوانها الزاهية ، فأمسك الرجل ابن المدينة بيد ولده خوفاً عليه من التزحلق وقال منبهاً : _ على أقل من مهلك .. ، هونها يا معين على هذا الوحل واندس فى قلب الشارع بين السيارات والزحام الذى بدأ يتفكك رويدا رويدا ...
(4) _ الآن عرفت سر الحياة يا أبتِ ..! وارتمى فى حضنه ، غاص فى صدره وعيناه ترقب الفراشات البيضاء الخارجة من نوار الفول محلقة فى الفضاء.