هزنى خبر رحيل الكاتب والباحث المتميز الدكتور سامى منصور. فقد غادرنا الرجل بلاصخب ولا إعلان وفاة ومن دون موعد عزاء. وكأنه شاء ان يعزز صورة ذهنية انطبعت عندى منذ أن تعرفت اليه فى الأهرام منتصف الثمانينيات. هذا الصوت الخفيض الذى يبلغ حد «الوشوشة» فى غرفة أو بالأحرى نصف غرفة بالدور السادس لا يتردد عليها إلا نفر محدود. لكن كل سمات العزلة والرهبنة تلك ما كان لها ان تخفى أنك فى حضرة مثقف ثائر من طراز نادر أخلص لقناعاته. ولم يحترف أبدا الكتابة للسلطة والسلطان أو باسمهما، ولم يتلون مع تحولات الحكم وتقلباته. ولعل هذا يفسر لمن سيعود الى أرشيف الراحل كيف شح نشر كتاباته على صفحات الأهرام اعتبارا من فبراير 1976، وتوقف تماما فى مطلع عام 1981. وهذا قبل ان يعود بثلاثة مقالات مع صيف عام 2005 بعدما غادر منصبى رئيس مجلس الادارة والتحرير من ظل يشغلهما لما يقرب من ربع قرن كامل. ولقد شهدت كيف عاد ليتوقف بعدها عن الكتابة حينما اعتبر ان حذفا متعمدا لحق بمقاله الأخير وينطوى على استهانة، خصوصا انه تم من دون استئذانه. وهو ما يعكس اعتزازا بالنفس وبمايكتب يدركه من الوهلة الأولى من عرفه. ولسامى منصور دور نقابى مقدر عندما كان عضوا بمجلس نقابة الصحفيين ومقررا للجنة حرياتها فى سنوات نهاية السبعينيات العصيبة. كما اطلق مبادرة تشديد حظر التطبيع مع إسرائيل وفى يوم رفع علم سفارتها بالقاهرة فبراير 1980.ولعل فى مثل هذه الاختيارات ما يفسر أيضا غياب كتابات الراحل عن الأهرام رغم غزارة وتميز اسهاماته فى الشئون الدولية مع عقدى الستينيات والسبعينيات، ومع انه كان نائبا لمدير مركز الدراسات بالأهرام. وبحق كان هذا جانبا من تكلفة اختيار مثقف ناصرى يسارى قررالاتساق مع فكره وضميره فيما أخذ رجال كامب ديفيد ممن رافقوا السادات الى القدسالمحتلة يحكمون قبضتهم على المؤسسات الصحفية والبحثية ويصادرون كل رأى مختلف ومعلومة لاتروق «للريس». لكن سنوات المنع والحجب الطويلة تلك لم تحرم كاتبنا المحترم من أن يترك تراثا مهما على صفحات العديد من الصحف العربية والمصرية. وهو ما يستحق الجمع واعادة النشر فى كتاب قد يكون بمثابة عرفان بالجميل ولو تأخر. كما تظل كتب الراحل لاغنى عنها لفهم العديد من الظواهر الاستراتيجية والسياسية حولنا. ولقد كان اقربها لوجدانه وأكثرها مثارا لاعتزازه كتاباه: «مذبحة لبنان الكبرى» عام 1981 و «تجارة السلاح والأمن القومى العربى» 1991. وثمة فى منهجيه هذين الكتابين العمدتين فى مجاليهما ما يفيد بأن قناعات الباحث وتحيزاته يجب ألا تحول دون نشر الحقائق واستقاء المعلومات والآراء من مصادر متعددة ،بل وتناقض هذه القناعات . ولقد روى لى يوما كيف عاش أعلى درجات متعة المعرفة فى بيروت وهو يستقصى على الأرض حقائق الحرب الأهلية من مختلف الجبهات والشخصيات. رحم الله فقيدنا الكبير. فقد هزنى رحيله على هذا النحو، خصوصا واننى كنت اعتزم مع الزميلة العزيزة الأستاذة نجوى العشرى زيارته ، فسبقنا الموت . وحقا كان الرجل مدرسة فى العلم والعمل والأخلاق والتواضع. وما نتمناه أن يحظى الرجل بتكريم مستحق لم يدركه فى حياته وأن يتخرج من مدرسة كتاباته القيمة أضعاف من نهلوا من حضوره المميز فى حياته. [email protected] لمزيد من مقالات كارم يحيى