اتضحت مرة أخرى مكانة مصر فى المنطقة بانتخابها للعضوية غير الدائمة فى مجلس الأمن بهيئة الأممالمتحدة، ولقد تم التصويت لصالح مصر من كل الدول العربية ومعظم دول افريقيا.. هذا ويعلم الجميع أن مصر هى مركز ثقل الدول العربية جمعاء، وأنها قد أثبتت هذا الدور مرارا وتكرارا خلال قرون مضت، فى نفس الوقت يجب أن لا ننسى دور مصر الريادى والحيوى فى افريقيا خلال القرن الماضى وأهمية العودة للعب هذا الدور مجددا لصالح كل من هذه الدول وصالح مصر أيضا. لمست خلال زياراتى لعدد من دول شرق افريقيا خلال العقدين الماضيين أن أهل هذه الدول يقدرون مصر وشعبها تقديرا جما، يشعر أهل هذه البلاد أن مصر هى الأخت الكبرى منذ فجر التاريخ، وينتظرون من شعب مصر دعمهم، لأنهم يطمئنون الى مصر وأهلها منذ زمن بعيد.. لذلك فعلينا محو آثار التجاهل الذى ترعرع فى عصر الرئيس حسنى مبارك، وازداد حدة بعد محاولة اطلاق النار على موكبه فى أديس أبابا حين كان متجها لحضور اجتماع قادة افريقيا، مع أن الفئة الضالة التى تعرضت له هناك كانت من شباب القاعدة ولا علاقة لاثيوبيا بهم، قرر العودة الى مصر فى لحظتها، وبدأ الابتعاد عن افريقيا كلية وتماما، كما لمست فى ترحالى فى هذه البلاد الصديقة المجاورة لنا انها تعتبر مصر الأخت الكبرى لهم جميعا، وأسرد فيما يلى بعض الملاحظات مما اتضح لى فى بعض المناطق: جنوب وغرب السودان ترعرعت علاقة مصر بالسودان منذ فجر التاريخ، وكانتا بلدا واحدا منذ عهد محمد علي، وكان الملك فاروق ملك مصر والسودان. كذلك بعد ثورة 1952 اهتم الرئيس جمال عبدالناصر اهتماما بالغا بالسودان وكان مبعوثه الخاص للسودان وخاصة جنوبها عضو مجلس قيادة الثورة صلاح سالم، استمرت العلاقة الوطيدة فى عصر الرئيس أنور السادات، أما بعد أن شب العراك بين شمال السودان وجنوبه، لم تقم مصر بدورها فى حل النزاع، وظهرت على الساحة أطراف غربية لا تفهم ما يدور، وحاول المرحوم جون قرنق قائد الجنوب الفذ حث مصر للعب دور الأخ الأكبر لحل النزاع مع الشمال لعدة سنوات حتى توفاه الله. ومازال الوضع سيئا فى جنوب السودان دون أن يكون لمصر فيه دور. الأدهى من ذلك ما حصل فى دارفور بغرب السودان دون أى مبالاة من مصر، ونتج عن غياب مصر أن أطرافا غربية ملأت الفراغ دون فهم للحقائق والناس وعاداتهم وطموحاتهم، كانت مصر هى الدولة الوحيدة التى يمكن أن تستمع اليها كل الأطراف لعمق تاريخ العلاقة وأصالتها. لا أنسى أنه فى احدى رحلاتى لولاية غرب دارفور أوضح لى الوالى وهو حفيد حفيد والى دارفور فى قديم الزمن، أن العلاقة كانت وطيدة بين والى مصر ووالى دارفور، أبان لى خطابا من محمد على الى «أخيه» والى دارفور يقول فيه ما معناه أن المحمل الذى يعده للارسال الى الحجاز (السعودية) ليس فيه ما يكفى من الحبوب ويسأل ارسال بعض من القمح لاضافته الى ما جمع فى مصر.. قارن ذلك بالوضع أثناء القلق فى دارفور، لقد ذهبت هناك منذ عدة سنوات بناء على طلب السيد بان كى مون رئيس هيئة الأممالمتحدة لمساعدة أهل دارفور بالبحث عن مياه جوفية بالقرب من تكدساتهم، كان هناك أناس من الشرق والغرب، ولكنى لم ألتق بطبيب مصرى أو مهندس يساعد فى الانشاءات، لأن مصر كانت قد تجاهلت مركزها فى تلك الفترة منذ عشر سنوات مضت. ٭ اثيوبيا تركت لنا الملكة حتشبسوت على جدار شاسع بالدير البحرى غرب الأقصر تذكيرا باهتمام قدمائنا بدول الجنوب، وخاصة بلاد «بونت»، كما كانت الحبشة أو اثيوبيا تعرف حينئذ، أوضح الرسم التاريخى أن الملكة أرسلت بعثة دبلوماسية الى هذه البلاد، ورجعت البعثة ببعض الهدايا لملكة مصر وأهلها. طبعا اهتم قدماء المصريين بالجنوب لعلمهم بأن مياه النيل تأتى من هناك، وكان للنيل مكانة خاصة، حيث جاء فى كتاب الموتى أن الانسان المصرى لمقابلة الإله فى الآخرة لابد وأن يقسم «وأنا لم ألوث النهر» أى نهر النيل كذلك كانت الكنيسة فى اثيوبيا تتبع البابا فى مصر منذ أوائل عهد المسيحية. كل ذلك تناسيناه وخاصة بعد المحاولة الفاشلة للاعتداء على حسنى مبارك وبعدنا عن اثيوبيا وحتى جيرانها اريتريا وجيبوتي. وللعلم فلقد قيل لى فى جيبوتى وهى دولة عربية صديقة تقع جنوب شرق اثيوبيا »مصر نستنا ليه«؟ نتج عن عدم الاتصال المباشر مع اثيوبيا أنها قامت بمخطط السد على النيل الأزرق دون التفاعل معنا. فى الوقت نفسه اثيوبيا تعلم أن لمصر مكانة مرموقة محليا ودوليا وسوف يمكن التفاعل معها، حيث يتم انشاء السد واستخدامه للكهرباء فى اثيوبيا والسودان على حد سواء دون الاضرار بحصة مصر فى المياه. طبعا يلزم لذلك النقاش بين المتخصصين فى كل من مصر واثيوبيا والسودان وهذا ما يدور حاليا. وللعلم لقد هييء لذلك زيارة السيد الرئيس لكل من السودان واثيوبيا فى أوائل تسلمه للعمل لقيادة الوطن. هذا يدل على الحكمة السياسية ويبشر بالخير فى الحقبة القادمة. تشاد وصلتنى فى يناير الماضى دعوة من السيد الرئيس »ادريس ديبى اتنو« لزيارة جمهورية تشاد. وهناك قابلنى بحفاوة بالغة وسألنى أن أعد مجموعة علمية لمساعدتهم فى البحث عن مصادر جديدة للمياه الجوفية باستخدام المعلومات الفضائية وما يلزمها من عمل حقلي، وقد كان. وفى الشهر الماضى ذهبت الى العاصمة »انجمينا« للاعداد للعمل الحقلى حيث شاركنى بعد عدة أيام الزميل الدكتور أحمد جابر ومعه ثلاثة خبراء وأجهزتهم لدراسة مواقع اخترناها فى جامعة بوسطن نتيجة لدراسة ومقارنة الصور والمعلومات الفضائية جميعا. قابلنى السيد الرئيس ادريس مرة أخري، وكان غرضه أن يخبرنى أنه فى زيارته لمصر طار الى »شرق العوينات« لكى يتطلع على ما تم فى المنطقة من زراعات متميزة باستخدام المياه الجوفية وسألنى وهل نستطيع أن نفعل مثل هذا فى تشاد؟ أنتم قادرون على ارسال الخبراء لمساعدتنا فى ذلك«. مع إن تشاد ليست دولة عربية ولكن عروبتها متأصلة منذ فجر التاريخ. أهلها عرب مسلمون يتحدثون العربية بطلاقة ويتصفون بصفات المحبة والعطاء والكرم وحسن التعامل. عندما بدأ العمل فى ريف تشاد تعاملت مع اناس من أقصى الشمال وأقصى الشرق وكلهم عرب مسلمون ينظرون الى مصر كالأخت الكبري. وأسفت كثيرا لأننى سمعت »مصر نسيانا ليه« مرة أخري. وتشاد دولة على خط البدء فى التقدم والتعليم والصحة وهم يحتاجون أساتذة وأطباء ومعلمين من الأزهر وخبراء فى الزراعة وكل ذلك. وأنا أعتقد أننا نستطيع أن نرسل أبناءنا خريجى الجامعات للعمل هناك ومساعدة هؤلاء الناس فى انماء بلدهم. فى الوقت نفسه لا أعتقد أن يتم ذلك بمجهود شخصى ولكن يلزم عمل حكومى يستمر لعدة سنوات للاعداد لعودة مصر وبقوة الى الساحة الافريقية فى مجالات التعليم والإنتاج الصناعى والبناء والزراعة وما الى ذلك.
خاتمة أسعدنى أثناء آخر زيارة للوطن أن التقى السفيرة الدكتورة أمانى عصفور رئيسة مجلس أعمال الكوميسا، والدكتورة أمانى تشاركنى الرأى أن لنا دورا أساسيا ومهما فى دعم الدول الافريقية ليس فقط لمصلحتهم ولكن لمصلحتنا أيضا. هذا وقد أسعدنى أيضا العلم بأن السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، اجتمع مع أعضاء اتحادات غرف التجارة والصناعة والزراعة بالدول العربية والاسلامية والافريقية والمتوسطية. فى هذا اللقاء أعلن السيد الرئيس أن »مصر عادت بقوة الى افريقيا«. هذه بادرة خير لأننى أؤمن أن هناك دورا أساسيا يمكن لمصر أن تلعبه لرفعة القارة الافريقية بأكملها، وفى الوقت نفسه يهييء ذلك لدعم الاقتصاد المصرى وفتح آفاق لا نهاية لها لإيجاد فرص عمل لشباب مصر من خريجى الجامعات والمعاهد التجارية والصناعية وما الى ذلك، والله الموفق.. لمزيد من مقالات د.فاروق الباز