عندما أحال المجلس الأعلي للقوات المسلحة مشروع القانون الذي أقره مجلس الشعب المصري الخاص بتعديل بعض أحكام القانون رقم73 لسنة1956 الذي ينظم مباشرة الحقوق السياسية إلي المحكمة الدستورية العليا, وهو التعديل الذي كان يهدف إلي الحيلولة دون تمكين رموز وقادة نظام الرئيس المخلوع من خوض انتخابات رئاسة الجمهورية, فإن المجلس كان مدفوعا حتما بأحد هدفين. أولهما, تجنب قبول أو رفض التصديق علي هذا التعديل الذي أدخله مجلس الشعب حتي لا يتهم المجلس( المجلس الأعلي للقوات المسلحة) في حالة القبول بأنه تعجل في قبول مشروع قانون يحتمل أن يكون مطعونا فيه بعدم الدستورية, أو أن يتهم في حالة الرفض بأنه منحاز إلي فلول النظام وأن هؤلاء ما كان لهم أن يمتلكوا هذا التجرؤ علي الثورة وأهدافها وشهدائها إلا بتشجيع وضوء أخضر من المجلس العسكري, أي أن المجلس كان يريد تحميل المحكمة الدستورية كل مسئولية قبول أو رفض هذا التعديل الدستوري. وثانيهما, أن المجلس كان يعرف مسبقا بما لديه من خبرات قانونية الرأي القانوني للمحكمة, وأنه حاول تفويت الفرصة علي التصديق الذي أدخله مجلس الشعب علي القانون المذكور حتي يوم26 أبريل الحالي وهو الموعد الذي ستعلن فيه اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية القائمة النهائية لأسماء المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية, وذلك لتمكين من بقي من فلول النظام بين المرشحين كي يدرج اسمه في تلك القائمة النهائية ويفلت من الإبعاد في حالة تصديق المجلس علي هذا التعديل, أي أن المجلس العسكري كان يهدف من وراء إحالة مشروع القانون إلي المحكمة الدستورية كسب الوقت لحين إعلان اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية القائمة النهائية لأسماء المرشحين, وهي قائمة غير قابلة للطعن وفقا للمادة28 من الإعلان الدستوري, ولكن لحسن الحظ أن موقف المحكمة الدستورية جاء حاسما وقاطعا ورائعا عندما قضي وسريعا بعدم الاختصاص ووضع المجلس العسكري أمام مأزقين: أولهما, مأزق أن يعلن رأيه صريحا سواء بقبول التصديق علي مشروع القانون أو رفضه وبالتالي الدخول في صراع مع مجلس الشعب والظهور بمظهر المنحاز إلي فلول النظام. وثانيهما, مأزق الوقت فقد جاء إعلان قرار المحكمة الدستورية في يوم21 إبريل أي قبل خمسة أيام من موعد إعلان اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية القائمة النهائية لأسماء المرشحين, ومن ثم وضع المجلس العسكري أمام حتمية إعلان موقف واضح إما بقبول التعديل الذي أدخله مجلس الشعب علي قانون مباشرة الحقوق السياسية, وإما رفض التعديل وإحالته مجددا إلي مجلس الشعب. أيا كان الموقف الذي سوف يتخذه المجلس العسكري فإن ما أود التركيز عليه هنا هو موقف أو حكم المحكمة الدستورية العليا وحيثياته, وهو موقف الإنصاف للدستور والقانون والحق والعدل وهو كل ما نتمناه الآن في بلدنا. فقد جاء في حيثيات قرار المحكمة بعدم اختصاصها بالنظر في أمر مشروع القانون الذي أصدره مجلس الشعب وأحاله المجلس الأعلي للقوات المسلحة لها للنظر في مدي دستوريته أن نص الفقرة الخامسة من المادة28 من الإعلان الدستوري يحصر الرقابة القضائية للمحكمة الدستورية في مشروع القانون المنظم للانتخابات الرئاسية فقط وقصر الرقابة علي القانون المذكور دون غيره, وأن محاولة مد نطاق رقابة المحكمة لتشمل نصوص مشروعات قوانين أخري يكون مجاوزا للاختصاص الدستوري المقرر لهذه المحكمة. هذه هي ثمرة من ثمرات امتلاك جهاز ومؤسسة وطنية خاصة بالرقابة علي دستورية القوانين وأن تكون هذه الجهة مستقلة تماما عن السلطتين التشريعية( البرلمان بمجلسيه) والتنفيذية( الرئيس والحكومة وأجهزتها) كي تكون رقابتها نزيهة بالقدر اللازم لحماية القوانين من شبهة عدم الدستورية. والحمد لله أن المحكمة الدستورية العليا تملك الاستقلالية والنزاهة الكاملة للدفاع عن دستورية القوانين لكننا للأسف لا نملك مؤسسة أو جهازا وطنيا له الصلاحيات والاستقلالية اللازمة للرقابة علي المال العام وحمايته دون خضوع أو ولاء لا لرئيس ولا لحكومة ولا لبرلمان, بل الولاء للشعب دون غيره. عندنا جهاز يمارس هذا الدور ولكن بقصور شديد وعدم استقلالية لتبعيته لرئيس الجمهورية هو الجهاز المركزي للمحاسبات, ولذلك فإن رئيس الجمهورية والرئاسة وأجهزتها غير خاضعة للمحاسبة والمراقبة منذ عام1999 أي منذ أن تولي المستشار جودت الملط رئاسة هذا الجهاز, وكذلك لا يخضع مجلس الوزراء للرقابة والمحاسبة, ولقد منع أمين عام مجلس الوزراء مفتش الجهاز المركزي للمحاسبات من مباشرة رقابتهم علي المجلس( أمين عام مجلس الوزراء هو السيد سامي زغلول وهو علي رأس هذا المنصب منذ أن تولي الدكتور أحمد نظيف رئاسة الحكومة وحتي اليوم), وهذا المنع كان في عهد رئاسة عصام شرف للحكومة وبالتحديد في نوفمبر.2011 وإذا كنا نتحدث عن ديمقراطية حقيقية ونعلن باسم الثورة رفضنا احتكار الثروة واحتكار السلطة ونقول أن كل الثورة للشعب وكل السلطة للشعب فمن الحتمي أن تكون عندنا أجهزة رقابة ومحاسبة تمنع احتكار السلطة وأن تكون عندنا أجهزة رقابة ومحاسبة تمنع احتكار الثروة بل وتحمي هذه الثروة من السرقة والنهب, فالمال السائب يغري بالسرقة, ومال مصر سائب لأنه لا توجد أجهزة رقابة ومحاسبة مستقلة استقلالا كاملا ولها اختصاصاتها التي تمكنها من مراقبة ومحاسبة كل مؤسسات الدولة وأن تحمي ثروة الشعب وتمنع الفساد, لأن الفساد والاستبداد أمران متلازمان. فعندما يسود الاستبداد أي عندما تغيب أجهزة الرقابة والمحاسبة للسلطة السياسية يكون الفساد نتيجة حتمية. وحتي نتفادي عذاب الله في الدنيا والآخرة فنحن مكلفون بالتصدي للاستبداد والفساد, وأن نغلق كل الأبواب التي يتغلغل منها كل استبداد وكل فساد بامتلاك أجهزة رقابة عليا حرة ونزيهة ومستقلة تحمي المال العام ينص عليها الدستور ويكفل لها كل الاستقلالية وكل الاختصاصات وكل الحماية. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس