فى بر مصر يرقد صرح علمى كبير عمره 140 عاما، يواجه نشاطه وحيدا بلا سند أو دعم، وقارب على الإفلاس، رغم أنه الصرح الوحيد فى المنطقة، والتاسع على العالم، ويمتلك بين جدرانه 12 ألف خريطة نادرة، و30 ألف كتاب، وألوف المقتنيات. إنها الجمعية الجغرافية السلطانية سابقا، والخديوية سابقا، والملكية الأسبق، والمصرية الحالية، تغير اسمها أربع مرات، وتغير موقعها أربع مرات، وتغير مرسومها أربع مرات، ورغم حالة الإفلاس والدعم المادى الغائبة فهى من أغنى الجمعيات العلمية فى مصر، لأنها تمتلك 590 فدانا من أجود أراضى بسيون وتمتلك أراضى فى حلوان وتحصل على ريع هذا الوقف كل سنة، لكن هذا الريع توقف منذ 11 عاما، والسبب يرجع إلى عملية احتيال تعرضت لها الجمعية. والحكاية أن المبنى الذى تحتله الجمعية كان قصرا لمحمد راتب باشا سردار الجهادية المصرية (وزير الحربية) فى زمن الخديو إسماعيل، وكان متزوجا من الهانم «كليبير» الجركسية، وقبل وفاتها أوصت بأن يئول القصر والأراضى ملكها لتكون وقفا للجمعية الجغرافية لأنها لم تنجب، ولكن هناك من أدعى أنه ابن محمد راتب باشا، وورث 590 فدانا فى مدينة بسيون (محافظة الغربية)، وأرضا فى حلوان . وعندما توقف ريع الأرض عن الجمعية الجغرافية هرعت الجمعية إلى الأوقاف لمعرفة السبب، وفوجئ رئيس الجمعية بظهور هذا الوريث المزعوم، فتحولت إلى قضية. 6 سنوات والقضية تتداول فى أروقة المحاكم، حتى تم الحكم بعودة الوقف الثمين إلى الجمعية، لكن الجمعية الجغرافية تعانى توقف الدعم، وليس لها أى دخل سوى اشتراكات الأعضاء (20 جنيها فى السنة)، وقد تداعت أشياء كثيرة منذ إنقاذها من أحداث 25 يناير، وكيف جاءت الرياح بما تشتهى السفن عندما اندلعت ألسنة النار من المجمع العلمى المصري، ولأن أعضاء الجمعية جغرافيون، فقد طمأنوا موظفى الجمعية أن الرياح غربية، وأن ألسنة اللهب سوف لا تطول تراث الجمعية، وحدث بالفعل. والغريب أن الجمعية جارة المجمع العلمي، وتقع بين شارعى محمد محمود ومجلس الوزراء،، لكن لصوص المظاهرات لا يعلمون أن الجمعية الجغرافية لا تقل تراثا وثراء عن المجمع العلمي، وأن كانت لم تسلم من الإهمال.
وعندما تتجول فى أروقة الجمعية وداخل قاعاتها الخمس، تستدعى على الفور صفحات واقعة الحملة الفرنسية على مصر (وصف مصر) ففى قاعة القاهرة تتجمل مجموعة من المقتنيات تعكس العادات والتقاليد مثل أدوات الحلاقة والتدخين والزينة، والحلى والموسيقى والإنارة، والألعاب وفنون الخط العربى، كما نرى الأحياء الشعبية، ومراسم الأعياد، وتزين هذه القاعة كسوة الكعبة ممثلة فى المحمل النبوي، وهو من زمن الملك فؤاد الأول، حين كانت مصر ترسل الكسوة المشغولة من خيوط الذهب والفضة (خيوط الصرمة) البارزة، وهى من الحرير الثقيل، ومزخرفة بزخارف نباتية وهندسية غاية فى الروعة والجمال. وخلف كسوة وأستار الكعبة، يقف «التختراوان»، وهو قطعة فنية نادرة كانت تتحرك فى شوارع القاهرة وكان مصنوعا من الخشب النادر الثمين المطعم بالعاج والصدف، ومطعم بالخط العربى الدقيق، وكانت عربة «التختراوان» تسير ويحملها جمل من الأمام والخلف، ومغطاة كلها بالخشب الأرابيسك بحيث تركب العروس هذه العربة ويتم زفها فى موكب يطوى شوارع القاهرة بحيث ترى العروس الناس ولا يراها أحد. ويتقدم التختراوان موكب الزفة، وذلك فى العائلات الميسورة الحال، وبجوار التختراوان لوحة لعربة كارو يجرها حصان، وقد استقلها أهل العروس فى المناطق الشعبية فى رحلة مماثلة. وفى القاعة نفسها كرشتا العروسة (التى أصبحت معروفة بالكوشة)، وهى مطعمة بالأشغال الرقيقة الجميلة، والعاج والصدف، وفى الكوشة درج تضع فيه العروسة النقوط بالجنيه الذهب، وفى القاعة نفسها الصناديق المختلفة التى كانت شائعة لحفظ الملابس الثمينة، وأخرى لحفظ الحلى والنقود، وقد أهدت الوالدة باشا هذه الكوشة عام 1917 للجمعية. أما القاعة الثانية فخاصة بالحرف والصناعات مثل النحاس والحديد والزجاج، وأدوات البناء، وصناعة الأحذية، والمكواة التى تدار بالقدم، والمنجد، وسنان السكاكين، وعصارتى القصب و الزيت، ورحاية الطحن . بينما ضمت قاعة إفريقيا مجموعة نادرة من السيوف، والحراب، والخناجر والسهام، والدروع، والطبول، وأدوات القبائل الإفريقية أهداها الفريق مختار باشا رئيس أركان حرب الجيش المصرى. وربما يشاهد الزائر للجمعية الجغرافية المصرية أروع بانوراما فى قاعة قناة السويس، أهدتها الشركة للجمعية سنة 1930، وتضم وثائق وصورا وخرائط ومجسمات للقناة منذ حفرها وحتى افتتاحها عام 1869، وتصور كيف كانت الحياة قبل الحفر وبعد الافتتاح، وتطوير المدن الثلاث (السويس والإسماعيلية وبورسعيد)، وهى مجسمات ستة عبارة عن «دايوراما»، منها واحدة بمجسم مركب ضخم يعبر القناة من الشمال للجنوب، وتمضى المركب ويتحرك معها المشاهد لضفتى القناة بحيث يتحرك الشريطان (المركب والأرض) أمام المشاهد لرحلة تستغرق 15 دقيقة تقطع فيها المسافة 193 كيلومترا طول القناة من بورسعيد إلى السويس، والمجسم الآخر حفل افتتاح قناة السويس بوجود الإمبراطورة أوجينى إمبراطورة فرنسا، هذا عدا الشرائط المجسمة لمدن القناة ، وهى سجل لما كانت عليه القناة ومدنها منذ85 عاما بمنازلها، وشوارعها، وأسواقها، ومنشآتها، وحالتها قبل تعرض هذه المدن للدمار والخراب إبان حرب العدوان الثلاثى على مصر (1956)،وتضم هذه القاعة 37 لوحة نادرة، وصورا زيتية أصيلة بالحجم الطبيعى الأدريسى وأبو حوقل زخم من الخرائط والاطالس، وهى ذخيرة علمية جغرافية، يندر أن توجد فى مكان آخر، فذخيرة الجمعية الجغرافية رصيدها 12 ألف خريطة أولها خريطة الادريسي عالم الجغرافيا الشهير وأبوالحوقل الذى وضح خرائط عربية بديعة، وبالإضافة إلى الخريطة التى حققت رغبة الخديو إسماعيل التى تخط الطرق والدروب والمسالك التى عبرها المكتشفون، والخرائط التى رسمها بوردى «باشا» وخريطة الفلكى باشا، وغوردون باشا، التى رسمها للنيل، هذا عدا هدايا الملك فؤاد والأميرات من المخطوطات. أما أهم الاطالس فهى للأمير يوسف كمال المغامر وأطلس الأمير عمر طوسون، وأطلس الحملة الفرنسية، ويجاورها مئات الاطالس المحلية والعربية والعالمية، وكلها الآن فى طريقها الى الحفظ الاليكترونى. ونصعد الى الدور الثانى والأخير من مبنى الجمعية الجغرافية المصرية (قصر محمد راتب باشا وزير الحربية)، ليكون أمامنا أرفف حملت 30 ألف كتاب من أندر الكتب، ولم يبخل علماء مصر ولا حكامها، فقدموا بحب شديد مكتباتهم الى الجمعية يتقدمهم الخديو اسماعيل فأهداها 2500 كتاب، ومحمود باشا الفلكى أهداها 300 مجلد، وأهداها الأمير حيدر فاضل 7000 كتاب، و أهدي ولى العهد الأمير محمد على توفيق 7000 مجلد، وأيضا العالمان سليمان حزين، وصفى الدين أبوالعز. قاعة الخرائط تملك تاريخ العالم فى صور، ويتصدر هذه الخرائط لوحة زرقاء اللون مستطيلة طولها متر، وبالخط الجميل الرقعة كتب (روى الحسن عن أبى الحسن عن جد الحسن ان أحسن الحسن الخلق الحسن) كتبها أمير الخطاطين فى مصر حسنى والد الفنانة سعاد حسني، وقد ترك ثروة من البراويز بخطه الجميل، ولكن يقال إنها بيعت هذه الثروة الى بائع روبابيكيا متجول. النقرزان الاسكندراني ومن طرائف هذا المتحف النادر فى الجمعية، الزار السودانى ولعب الأطفال وعروس المولد، وعلى لوز وهى نوع من الحلوى من السكر والمكسرات ويتم تناولها بملاعق مخصوصة، ويتصدر هذه القاعة الوشم الذى كان يحرص الرجال والنساء على طبعه، ويقف فى وسط كل هؤلاء النقرزان الاسكندرانى وهى مشهد لرجل يملك الحنكة لوضع عصا طويلة وعلى رأسها فانوس على جبهته أو أنفه ويتحرك بها فى مشهد جميل ومتوازن والموسيقى تصدح من خلفه فى الشارع. ويلفت نظرك حمام الحريم ويتصدره الصابون الأحمر وتتعامل معه العروس بحيث تستخدم الصابونة المصنوعة والمضاف اليها مادة ملتهبة لتجعل الوجه أحمر ومنتفخا.. وهو مظهر جمالى للعروس وقتئذ!! وبجوار الصابون مكاحل العين،و تخرج العروس مرتدية قبقابا من الخشب مطعما بالصدفة ومحاطا بقطع نحاسية صغيرة ولا يخلو المكان من التمائم وخمسة وخميسة والخرزة الزرقة وبائع حب العزيز وملابس العمد والمشايخ والسقا حامل المياه وهناك ركن للادوات الموسيقية التى كانت تتصدر الافراح والليالى الملاح وركن مجاور للمكاحل التى يتكحل بها النسوة لتجميل العيون.. وآخر لأدوات نقش الكعك والبسكويت وفطائر الأقباط (فطير الملاك) الذى يصنع فى المناسبات وقاعة كبيرة من الوشم على الذراع والصدر عددها كما يقول مشرف المقتنيات الأستاذ أحمد مكاوى 18 وشما. إن الجمعية الجغرافية المصرية من المؤسسات العريقة ولم تنل قدرها من الاهتمام والرعاية بدأت بحجرة فى بيت محمد بك الدفتر دار زوج الأميرة زينب هانم ابنة محمد على باشا الكبير فى حى الجمالية، ثم انتقلت الى فيلا فى بوسط المدينة، ثم انتقلت الى فيلا على ناصية قصر العينى وشارع مجلس الشعب الذى تم هدمه وأصبح بناية ضخمة ملحقة بمجلس الشعب، وانتقلت الى مقرها الحالى عام 1917. وكما يقول الاستاذ عبدالهادى عطية المدير المالى للجمعية انها ملحق بها 19 موظفا كلهم يعملون بالمكافأة.. وقد توقف دعم الجمعية من ريع الأوقاف 11 عاما من أوقاف طنطا، ولم يعد لدينا امكانيات مادية لحفظ التراث وحمايته من التلف أو تعيين موظفين أو رجال أمن.. يبقى أن الجمعية الجغرافية المصرية يتحكم فيها ريع أوقاف طنطا.. وإدارة الجمعيات النوعية بوزارة الشئون الاجتماعية، وكان مقر الجمعية يشغل مساحة كبيرة اقتطع منها مجلس الشعب ومجلس الشورى ووزارة الرى ووزارة النقل ووزارة الحكم المحلى ودواوين المحافظة فقد أصدر الخديو اسماعيل مرسوما بإنشاء الجمعية فى 19 مايو سنة 1875، ومنحها اعانة حكومية قدرها 400 جنيه وتقلد السيد جورج شفاينفورت الالمانى رئاسة أول مجلس وهو رحالة مشهور كما يقول محمد أبودواش أحد المشرفين على العمل، أما المادة الثانية من المرسوم فتشير إلى تدريس علم الجغرافيا بجميع فروعه مع القاء الأضواء على إفريقيا. الرئيس الخامس عشر للجمعية هو الدكتور السيد الحسينى عميد أداب القاهرة السابق واستاذ الجغرافيا ومن مهماته متابعة اصدار مجلة الجمعية التي بلغت 70 مجلدا بالعربية والانجليزية والفرنسية، ويتم تبادلها مع الجمعيات العالمية المماثلة، وإصدار سلاسل البحوث الجغرافية ، والمؤتمرات التى هدأت وتيرتها بسبب الامكانيات. والجمعية الجغرافية محاصرة بالوزارات والهيئات التى نهشت فى أرضها.ومحاصرة بتعطيل مليون جنيه من وقفها و محاصرة من تنفيذ حكم المحكمة لاسترداد ريع أرضها، ومحاصرة من الحشرات وعتة الكتب لضيق ذات اليدومحاصرة من وقف تعيين موظفين وعمال لنظافة المبنى وحمايته والقبض على «بوصلته» من التيه.