روى الراوى الأسطورة التى صاغها الشاعر العراقي، أحمد مطر شعراً (الثور فر من حظيرة البقر، الثور فر، فثارت العجول فى الحظيرة، تبكى فرار قائد المسيرة، وشكلت على الأثر، محكمة ومؤتمر، فقائل قال : قضاء وقدر، وقائل : لقد كفر، وقائل : إلى سقر، وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة، لعله يعود للحظيرة؛ وفى ختام المؤتمر، تقاسموا مربطه، وجمدوا شعيره، وبعد عام وقعت حادثة مثيرة .. لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة). يضحك الجمهور من النهاية الساخرة التى أغلق بها الراوى حكايته، ويصفقون حتى تلتهب أكفهم احمراراً بلهيب الحماس، بينما تُلهب أعين الراوى دموع ظنها الجمهور تواضعاً أمام جلال حفاوتهم تصفيقاً، لكنها مرارة من عدم وصول صرخته للتنبه من خطر بالأوطان محيق، فالراوى ضمير لوطن، يرصد حال العناء غناءً، ويسخر من واقع الأداء غباءً، ويحض الجمهور على الحظيرة المستهدفة رجاءً، ويحرض ولاة الأمر لتدارك الحظيرة المستهدفة بإعلان جدارة القرار حشواً وجسارته رداء. إن قطعان الوطن المستهدفة، تغوى آلامها سهام الاستهداف من كل حدب، والثقة فى الوطن على رأس قائمة الاستهداف، ولذا بدأ الخيار يوضع أمام أعين الناس، (مبارك بديل الفوضي، ومرسى بديل الكفر)، لُيُخَير الشعب بين الانتماء لوطنِ مَنْ خَلَعَهمُ إفسادهم، وأسقطهم فسادهم، باعتبار أن شعارنا الذى لا مفر للناس منه هو (ولا يوم من أيامهم)، أو بين الانتماء لوطن من عزلهم زورُ شعاراتهم، وفضح ما فى صدروهم كرسى الحكم، ورايتهم التى بها يتاجرون، وعلينا يفرضون (عائد عائد يا قرآن حاكم حاكم يا إسلام). وكل من يستهدف الوطن من الداخل، يسعى لاستثمار الطاقات المعطلة بفعل العقود العجاف، يحاول بكل وسيلة تعميم ثقافة (الفضا) على العقول، لتكون أولويات المرحلة مختلة الترتيب، وتغدو قضايانا الملحة هى تجفيف رذاذ الماء المتقاطر من صنبور عطِب، بفعل مواسير الجهل والفساد والحاجة، وأثناء عملية المسح يسعى الجميع إلى الاستئثار بعملية النظافة الشكلية، فكل من يسعى للتجفيف بطريقته، يعتبر نفسه صاحب الحق الوحيد، والكل دونه مكانة ووطنية، وما أن يبدأ فى مزاولة عمله حتى يبدأ البحث عن متهمين ساهموا فى انتشار رذاذ قطر الماء، الذى هو أصلاً يتقاطر من صنبور العِلل المتراكمة، إنها المهمة الجليلة التى تتصدى لها (النخبة المصرية الحالية) بكل الوانها وتوجهاتها إلا من رحم ربى وقليل ماهم-، تلك التى تتصدر عمليات النضال الوطنى عبر (مسح الرذاذ)، التى أسفرت عن حالة من فقدان الثقة عند الناس، عموم الناس، وأشاعت حالة من اللامبالاة عند من بحث فى (30 يونيو) ومن قبلها (25يناير)، عن يقين فى وطن. حدث هذا ويحدث كل يوم منذ 30 يونيو 2013 حدث عندما حول النخبة رمزية الوطن إلى شخوص ورموز سياسية. وعندما خلط البعض بين انتهاك الخصوصية الشخصية إعلامياً وصلاحيات العدالة القانونية.وعندما امتهنا العدو المنظم المتربص بالوطن، فحولناه إلى شماعة تعلق عليها كل الأزمات، وفزاعة اتهام تواجه كل من نختلف معه. وعندما تحولت لغة الإسفاف وتلميحات الانحطاط والألفاظ الخارجة إلى فعل طبيعى يمارسه كل ساع لنجومية، أو مؤمل فى توسيع رقعات سلطانه، وعندما غيبنا الرؤية الوطنية الجامعة عن العقل الجمعى المصري، صارت الأولويات محصورة بين (التراشق اللفظي) بين كل مختلفين، و (الهوس الجنسي) لدى كل طارق لباب النجومية، و(المزايدات الوطنية) فى مواجهة مزاد مفتوح بضاعته (الثورية الوطنية) وزبائنه متنوعون بين وطنى ضد الصهيونية وثان مع السلام وآخر يرفضهما ولديه وجهة نظر أخرى لايفصح عنها لكنها فى أعماق يعرفها!. إننا نخطط بمنتهى الإخلاص لحالة (الفضا) التى تحياها مصر من عقود، و(الفضا) هنا يعنى الفراغ، فمصر بلا مشروع على أى مستوى منذ حرب تحرير سيناء 1973، اثنان وأربعون عاماً ننطلق من الفضا، نحلق فى الفضا، ونختلف حول الفضا، ونصنع استراتيجيات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد للفضا. لكن متغيراً دخل على حالة (الفضا) العامة. هذا المتغير بدأ ب (25 يناير 2011)، ثم تواصلت تداعياته لتصل إلى (30 يونيو 2013)، وكان لزاماً على تداعياته أن تستمر حتى لا تنتصر ثقافة (الفضا)، تلك الثقافة التى خلفت أجيالاً من نجومها، الذين اقتحموا كل أودية الحياة المصرية فى شتى المناحي، ليتجسد فى الحال بشراً غير سوى الفكرة ولا الرؤية. بشر مسئولون يتخذون القرار وضده، ويصدرون الأمر وعكسه، ويعلنون العداء لخصوم الوطن فى الداخل والخارج ويتحالفون معهم. لم تستثمر الدولة حالة (30 يونيو) الجمعية، حتى باتت الطاقة الشعبية التى هى أحد أهم أسباب قوة الدولة فى مواجهة المتربصين معطلة، الأمر الذى أعطى الفرصة لمستثمرى (الفضا) ليعودوا، كان فسدة العصور المخلوعة والمعزولة، يستثمرون شيوع الفضا لدى الناس، تارة يساومون فضا جوعهم لينجحوا فى الانتخابات، وأخرى يساومون فضا عقولهم لينجحوا فى توسيع قواعد التنظيمات. لكن الشعب الذى كان (فاضياً) أثبت أنه بكل علل فضاه، قادر على العطاء حين ثار تارة، وحين منح ملياراته فى مشروع قناة السويس الجديدة تارة أخري، وبعد هذه المحطة تحديداً بدأت (فلول الفضا) تضغط ليعود الشعب إلى (كنبته) فارغاً كما كان معطلاً كيفما أرادوا، وخائب الرجاء فى يقينه الذى يحمله بالوطن. لدى الشعب من (أسباب) اليقين ما يتجاوز مؤامرات (فلول الفضا)، ولكن النخبة الحاكمة والسياسية والمبدعة بحاجة إلى مراجعة أداءاتها، لتخطط للحفاظ على (الحظيرة الوطنية)، بدلاً من البكاء على (فرار ثور). لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى