الاسم شريف صالح, العمل: شخص صالح للقتل, مجموعة قصصية صدرت منذ بضعة أشهر, عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع. الحالة: عمل صالح للقراءة, لا بمعني أنه يقرأ ولكن بمعني أنه يمتع قارئه، بلغة اليوم, هذا هو الحكم, فما الحيثيات؟ شريف صالح يكتب نصا مكثفا بلا ترهلات عاطفية أو استطرادات يمكن الاستغناء عنها, وهو, إن عامدا أو غير عامد, يكتب نصا جديدا في كل مرة, لا يشبه نصوصه الأخري ولا نصوص غيره, وهي قدرة استثنائية إذا عرفنا أن هذه المجموعة تحوي ثلاثة وستين نصا. فهو تجريبي سواء تقصد التجريب أم لا, لأنه دائما يحمل مذاق الجدة والطزاجة, وهو يضرب في دروب شتي, كأنه يبحث عن نفسه, ولعمري لقد وجد منها الكثير, ويشي هذا التهيام بالمزيد. أما الدليل الدامغ علي صحة هذا الحكم فهو النصوص نفسها. ولقد اصطفيت لك منها هذه النصوص الخمسة. صلعة عواطف عواطف بنت الجيران حلقوا لها شعرها وألبسوها طاقية أبيها الصوف. كنا نجلس معا, الأولاد و البنات, نلعب ونحكي, فلا تمنعني من شد شعرها الأسود الناعم. كان قصيرا لا يصل إلي كتفيها. عواطف لا تتكلم كثيرا. لا تصرخ ولا تبكي مثل بقية البنات, لكن عندما تراني أهاجم القطة البيضاء تحذرني. من يقتل القطط لا يدخل الجنة أبدا! بعد أن حلقوا لها شعرها لم تظهر علي رصيف الدار. حتي المدرسة لم تعد تذهب إليها! إذا لمحتني قادما تجري إلي الداخل فلا أري سوي طاقية أبيها الصوف تغطي رأسها وأذنيها الصغيرتين. أمي قالت إنها أغمي عليها في الحمام, ونادوا علي أبي لأنه الوحيد في الشارع كله الذي يعطي الحقن للمرضي. ثم عاد أبي وهمس لأمي بكلام لم أفهمه.. بعدها.. في بيتنا, كما في بيوت الجيران, ارتدي الجميع السواد. فهمت من كلام أمي أنها لن تجلس معنا مرة أخري علي الرصيف ولن تذهب معي إلي صيد السمك من النهر. كلما دخلت الحمام أظل منتبها حتي لا أتزحلق ويغمي علي. لا أريد أن يحلقوا لي شعري علي الزيرو مثلها. في المدرسة, فرحت جدا عندما رأيت اللوحة الكبيرة للكرة الأرضية الملونة بالأزرق والأخضر. مكتوب تحتها عمل التلميذة عواطف أحمد.. هي الآن تلف الكرة الأرضية وترسم أماكن لا أعرفها, لكن ما ضايقني أنها ذهبت دون أن ترفع الطاقية الصوف وتريني صلعتها. يد فاطمة كان متكئا علي عكازه بشعور من تاه فجأة بين غرف البيت ولا يتذكر أي غرفة كان يقصد. الصالة شبه معتمة, وهو يحدث في أفق بعيد. اللمبة نمرة2 معلقة في أقصي الجدار, تهزها ريح الشتاء. نادي: يا علي, رد عليه من داخل الغرفة صوت لامرأة عجوز: علي في العراق من خمس سنين.. ربنا معه. تحرك نحو اللمبة. حاول بيد واهنة ومرتعشة أن يرفع لسان الفتيل قليلا, ثم تلفت حول نفسه كمن شعر بوجود أحد يمشي خلفه في الصالة الواسعة: أنت جيت يا مصطفي مصطفي تعيش أنت يا حاج.. اقرأ له الفاتحة لم يقل شيئا للمرأة ولا هي قالت شيئا آخر. الصمت وصوت الريح في الخارج لكن لا مطر يسقط. الكهرباء انقطعت عن البلدة منذ ثلاث ليال. وجد نفسه خلف باب الدار, يتحسس الشراعة المغلقة. ينسي أصابعه- قليلا- علي ملمسها الزجاجي الخشن. كأنه يوشك علي الخروج ويتردد. ثم يد تطرق بخفة من الخارج, عرف صاحبة هذه اليد التي تنقر ثلاث نقرات مثل عصفورة عادت إلي عشها. نعم, هي يد فاطمة ابنته, تزوره ليلة العيد مع زوجها وعيالها. افتح يا ابا آني فاطمة أرهف أذنه خلف الباب كي يتأكد. لكنه لم يسمع شيئا, حتي صوت المرأة الذي كان يأتيه من وراء ظهره انقطع هو الآخر, نامت فيما يبدو. كان ظله هشا, ومحنيا علي الجدار, يهتز مع رعشة الضوء كأن عاصفة اجتاحته. استدار علي عكازه وبصعوبة سحب الفتيل إلي أسفل فانطفأ الضوء. موسيقي للأعرج من مسافة بعيدة رأيته يقفز من فوق الرصيف في عز الظهر. تصورته سليما مثل الآخرين وسيعبر بالسرعة المتوقعة. الأصحاء يدركون بسهولة أن السيارة مسرعة أكثر مما يجب, فيهرولون بحلاوة الروح قفزا مهما بدا شكلهم مضحكا. أما هو فكان يكابد كي يفر من وجه سيارتي المقبلة. كتفه منخفضة مع التواء في ذراعه كأن الجانب الأيسر كله معاق, فكان يرتفع وينخفض بصورة لولبية غريبة. كان راديو السيارة مرتفعا علي أغنية اللي بتقصر تنورة.. انتبهت إلي أن حركة الأعرج انسجمت جدا مع الإيقاعات الفلكلورية. كأنه يرقص علي أنغامها في أثناء عبور الشارع. غيرت المحطة سريعا علي راديو سوا, كانت بريتني تغنيColdAsfire فوجدت الأعرج غير حركته قليلا لتتناسب مع طبقة صوت بريتني وخفة الموسيقي. كان اكتشافا بالنسبة لي أن حركات الأعرج لطيفة.. وموسيقية.. رغم أنني علي مسافة منه وأحكم نوافذ السيارة لأستمتع بنسمات المكيف لكن صوت الموسيقي كان يتسلل بطريقة ما إلي جسد الأعرج في أثناء عبور الطريق. زوج يمام في هذا الوقت فتحت شباكها للشمس. ابتسمت لهديل زوج يمام جبلي يتجول آمنا علي إفريز الشباك. كان ينفر فتات الخبز وقطع الخضراوات التي وضعتها له ليلا.. تأملت شجرة النارنج في الساحة الواسعة, واستنشقت بعمق رائحتها العطرية. في هذا الوقت فتحت شباكها للشمس. أغمضت عينيها عندما سمعت صوته من الداخل: أنت واقفة عندك ع الصبح بتعملي إيه؟! فتحت عينيها فلم تر أثرا لزوج اليمام وشجرة النارنج والساحة الواسعة. حيثية أخيرة: هذا الكاتب متهم بالتعاطف الإنساني, وهي تهمة إن ثبتت علي أديب تمنحه أولي مؤهلات الخلود.