هذه لحظة «الحسابات الدقيقة» لا «المشاعر العنيفة»، وذلك لأن اللحظة تجرى فيها «مساومات كبري» ليس فقط على حساب «أسد فى الشتاء»، لم يعد يملك من أمره شيئا أو بيده «أوراق كثيرة» بل على حساب شعوب تموت على شواطيء الموت أو بأسلحة الاصدقاء والاعداء على حد سواء. إلا أن ذلك مجرد مشهد واحد، وخلف الصورة صراعات ولعبة شطرنج كبرى خلاصتها مزيج من: «الصرامة» حين الضرورة، والدبلوماسية ذات المغزى كلما أمكن، ومحاولة «عدم التضحية» بالمصالح الحقيقية الأمريكية وسط هذا كله. وفى المقابل فإن روسيا تغامر بالتواجد الفعلى «بالحديد والنار» حتى تكون على المائدة فى لحظة الحل، وتقاسم المصالح ودرء المخاطر فى المنطقة أو بامتداد الساحة الدولية الكبري، وفى لعبة كهذه هناك دوما مخاطر، وإحتمالات للخسارة لابد من حسابها بدقة. ووسط هذا كله فأن هناك من يشتد به الخيال ليقول لنا أن التصالح الايرانى مع »الشيطان الأكبر« الأمريكى مؤشر على نهاية «الثورة الاسلامية» فى ايران. وفى خضم الغيوم الكثيفة فإن عبدالرحمن الراشد يتساءل فى الشرق الأوسط «هل بيعت القضية السورية»؟، وأغلب المؤشرات توحى بأن «سوريا تستعد للحل السياسي»؟.. واذا ما كانت هذه مؤشرات حقيقية فإنه من الأرجح أننا فى الطريق ربما لتسويات ما بعد سنوات الفوضى والدمار الهائلة، ولربما يمكن أن نعيد «عقارب الساعة« لوقف الحرب الطائفية بين السنة والشيعة، وأن تسود »الواقعية السياسية»، وأن ندخل خريف الايديولوجيات فى المنطقة.. لربما؟! والبداية ماذهب إليه استاذ علم الاجتماع الايرانى سعيد أمير أرجوماند من «أن اكثر مايهم ايران الآن ليس الايديولوجية، بل المصالح الوطنية، والواقعية السياسية، ولهذا تجد نفسها حاليا تدعم معارضى الاسلام الثورى السياسى مثل بشار الأسد فى سوريا، وهى لنفس السبب تدعم الحوثيين فى اليمن، وتوقع على اتفاق نووى مع أمريكا، بل وتتعاون معه ضد تنظيم الدولة الاسلامية، العدو المشترك». ويخلص د. سعيد مدير معهد ستونى بروك للدراسات العليا بجامعة نيويورك إلى أن «والآن بعد أن انتهت الثورة الاسلامية فى ايران، فمن المرجح أن يصبح التعاون فى مجالات أخرى جذابا بنفس القدر». وربما يكون الحكم متسرعا، إلا أن موقع قنطرة الاردنى ينشر مقالا للكاتب الايرانى على صدر زاده يتحدث فيه عن إبطال سحر الجنرال الغامض قاسم سليماني، وذلك بعد ما نشر موقع «ايران دبلوماسي» الذى يديره صادق خورازى سفير ايران السابق لدى باريس والقريب من مرشد الثورة على خامنئى بعض التفاصيل الغنية جدا بالمعلومات حول دور سليمانى الهدام فى العراق. والمثير هنا أن سليمانى كتب مرة إلى الجنرال الأمريكى ديفيد بتريوس أنه أى سليمانى هو وحده من يحدد السياسة الايرانية فى العراقوسوريا والشرق الأوسط بأكمله. ولكن هذه السياسة لا تحقق أى نجاح يذكر. فالحروب الأهلية مستعرة دون انقطاع، وفى حين يعمل سليمانى خططه إلا أن هذه الخطط من دون استراتيجية واضحة!. ربما هذه ارهاصات بداية عودة ايران «كدولة عادية«، ولكن يجب ألا نطمح كثيرا، فالأمور تحتمل أوجها كثيرة! وأغلب الظن أن جموح ايران وتوسعها بالنفوذ والوجود العسكرى فى 4 دول: العراقوسوريا ولبنان واليمن لم يعد قادرا على التمدد أكثر، بل جرت وتجرى محاولات جادة لمواجهتة من قبل الاطراف العربية وفى مقدمتها السعودية. كما أن الرياضوالقاهرة نجحتا فى اختراق الموقف الروسي، وذلك كل بطريقته. والآن تدرك ايران بقوة أن روسيا لن تغامر بأن ترى فى موقف المنحاز لطهران فى «الحروب بالوكالة» مابين السنة والشيعة فى المنطقة، ويرى الباحث الامريكى ديمترى سيمز مدير معهد المصالح الوطنية «أنه لو ترسخ التصور بوجود تحالف ما بين موسكووطهران، فان ذلك سيكون له اثمان خطيرة ليس فقط فى العلاقات الروسية مع الولاياتالمتحدة، ولكن مع جيران سوريا المباشرين مثل تركيا والاردن، ودولة أخرى ترغب فى أن تكون » صديقا صامتا لروسيا وهى مصر. إن مصر أحد المستهلكين الكبار للأسلحة الروسية، ومن ثم فان خسارة موسكو لاتفاقيات الغاز التركية ومشتريات الاسلحة المصرية سيكون مكلفا للغاية لروسيا. ولذا فإن بوتين عليه أن يجرى بعض الخيارات الصعبة».ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن د. فيليب غوردن مساعد الرئيس الأمريكى السابق ومنسق سياسة البيت الأبيض ينصح بوتين بالانتباه لما تملكه السعودية من أوراق ، ففى حوار كاشف مع هدى الحسينى فى الشرق الأوسط يقول بلامواربة »:أعتقد أن السعودية تستطيع أن تلعب دورا مهما جدا بالنسبة لروسيا، فالرياض لديها أوراق كثيرة تجعلها تلفت روسيا إلى أهمية السياسة السعودية فيما يتعلق بالانتاج النفطي، وأن هذا سينعكس سلبا على روسيا إذا لم تعمل مع السعودية وآخرين حول الانتقال السياسى فى سوريا، وتستطيع السعودية أن توضح للكرملين أن هذا لايعنى أن النفوذ الروسى سيلغى فى سوريا، وأن هذا لايعنى تفكيك كل النظام السوري، بل يعنى أن انتقالا سياسيا فى سوريا من دون الأسد سيكون له نتائج إيجابية على الجميع وهذه نقطة تتقاطع دوما حتى لوقال الجميع إن الاسد سيبقى خلال المرحلة الانتقالية، فالمعضلة حتى الآن هى «إيجاد البديل القادر على تسلم زمام الأمور» وهذه لو اتفق الفرقاء المحليون والاقليميون والدوليون سيجدون حتما البديل من داخل أروقة النظام ذاته. إذن هذه حدود اللعبة الدائرة، وأحسب أن طهرانوالرياض وأنقرة والقاهرة،، تدركها، وتعرف محاذيرها. إلا أن اللافت فى حديث غوردن هو كشفه بلغة صريحة أن واشنطن لن تترك الشرق الأوسط، فهو يرى أن «أوباما لايدير ظهره للشرق الأوسط، فهناك شراكة كاملة مع المنطقة هناك مصالح أمريكية كثيرة عسكرية واقتصادية، إضافة الى محاربة الارهاب. لايمكننا أن نترك الشرق الأوسط ولن نتركه ماهو صحيح أن أوباما غير مقتنع بأن تدخل الولاياتالمتحدة يمكن أن يرسم النتائج فى الشرق الأوسط وبلغة أكثر وضوحا مالم تفعله الولاياتالمتحدة فى ظل إدارة أوباما هو أن تتدخل مباشرة فى الحرب هناك حيث قوات ايرانية وروسية، وتجد نفسها غارقة فى حرب إقليمية معقدة جديدة. إذن أوباما لايريد التورط ولامواجهة موسكو عسكريا، كما أن غوردن يقول بوضوح لم يتوقع أحد أن تصبح ايران بعد الاتفاق النووى شريكا متعاونا، وليس من أحد ساذجا، والاتفاق النووى لم يكن موافقة أمريكية على ماتقوم به ايران فى سورياوالعراق واليمن وأحسب إن النخبة المصرية عليها الا تكون ساذجة هى أيضا، وألا تقاس الخطوات بالنوايا بل باجراءات محددة ، وخطوات عملية لبناء الثقة مع طهران، وأن يكون الحوار مع ايران محكوما بالصرامة حين الضرورة والدبلوماسية المثمرة كلما أمكن ، وألا تكون على حساب المصلحة المصرية والعربية تحت أى ظرف. وفى الوقت ذاته تثبت الاحداث صحة وجهة النظر المصرية فى التعاطى مع الأزمة السورية، وفى الاقتراب من روسيا كما أن المصلحة المشتركة للقاهرة والرياض وأبو ظبى تقتضى التنسيق على أعلى مستوى بشأن التعامل مع طهران وأنقرة. ويبقى أن القوة العربية المشتركة والتحالف المصرى السعودى الاماراتى مهم للغاية ، فضلا عن ضرورة الانتقال بالتعاون الاقتصادى الى مرحلة التحالف الاقتصادى بخطوات سريعة متكاملة ، وذلك وصولا إلى مفهوم القوة الشاملة لمواجهة الاخطار والتحديات وعملية المساومات الكبرى الجارية الآن والرسالة واضحة من الجميع: موسكو فى المعمعة وعلى الارض ، وطهران وأنقرة تدركان ماتريدان، وواشنطن لن تتخلى عن الشرق الأوسط (بوضوح مصالحها) ولكن الأمر يعود إلى شعوب المنطقة لمواجهة التحديات واتخاذ القرارات مثلما يقول مستشار أوباما ، وهذا معناه بوضوح لابد من قمة رباعية مابين زعماء القاهرةوالرياض وأبو ظبى والكويت من أجل اعطاء دفعة جديدة للتنسيق والتحالف بعدما أصبحت المساومات فى مراحلها ماقبل الأخيرة؟! لمزيد من مقالات محمد صابرين