لا شك أن قضية الخطاب الدينى هى قضية الأوقاف الأولى، وربما تظل القضية الفكرية والثقافية الأولى لجيلنا، لأن الجهود التى تحتاجها قضية الخطاب الدينى لا يمكن أن تكون عفوية أو طارئة أو آنية، بل هى قضية حياة، لمن يريد أن يجلى الغبار عن الوجه الحضارى لديننا الإسلامى الوسطى السمح، ولمن يريد أن يبنى وطنا أو أمة على حضارة نيرة مستقيمة لا نتوء فيها ولا اعوجاج، ذلك لأن ما أصاب الخطاب الدينى على أيدى أعدائه وأيدى الخونة والمارقين والمستأجرين والمستغفلين وغير المؤهلين وغير المتخصصين من المحسوبين عليه بغير حق من الخلل والعطب فى الفهم والتفكير يحتاج إلى جهود مضنية لإصلاحه. وبما أن تغيير الفكر والثقافة أو تصويب مسار المعتقد ليس بالأمر الهين أو اليسير، إنما هو أمر تراكمى من جهة، وتتحكم فيه عوامل وعناصر متعدة من جهة أخرى، فإن الأمر يحتاج إلى جهد وزمن وصبر، وفى الوقت نفسه إلى عزيمة وعلو همة لاختصار الزمن المطلوب وتقريب المسافات البعيدة وردم الفجوة بين الواقع والطموح الذى نسعى إليه. مع إيماننا بأن الأمور العقدية و الفكرية والدعوية والثقافية أشبه ما يكون بالطفل أو النبات الذى ينمو نموًا بطيئًا قد يكون غير منظور بالعين المجردة أو الرؤية المباشرة فى مراحل نموه الزمنية فى المدى القصير، غير أنه يطرد فى هذا النمو حتى يستوى الطفل رجلا والنبات ثمرًا، وهو ما نعمل له وعليه، آملين فى التصحيح المستمر والتغيير التدريجى حتى نقتلع التطرف من جذوره، ويحل محله الفكر السوى المستقيم المستقى من صحيح ديننا وسماحته ووسطيته واستيعابه للحضارة الإنسانية، وترسيخه لأسس التعايش السلمى بين البشر جميعا. وفى هذا الإطار يأتى مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف الذى نعقده فى مدينة الأقصر يومى 14 ، 15 نوفمبر 2015م تحت عنوان: «رؤية الأئمة والدعاة لتجديد الخطاب الدينى وتفكيك الفكر المتطرف» ليشكل حلقة من حلقات عمل الوزارة فى محاولات التجديد ونفض الغبار عن ثقافتنا الإسلامية الناصعة البياض، وتفكيك الفكر المتطرف الذى ينهش فى جسد الأمة بلا رحمة ولا هوادة ولا إنسانية، فى عمالة واضحة لأعداء الأمة، وخيانة معتقديه لدينهم وأمتهم. وإيمانًا منا بأن أحدًا لا يمكن أن يعمل وحده أو أن ينجح وحده أو أن يقضى على هذا التطرف وحده، وأن قضيتنا هى أوسع من تجديد الخطاب الديني، إنما نرمى إلى صياغة جديدة للفكر العربى والإسلامى من خلال تجديد الخطاب الديني، والفكري، والعقلي، والثقافي، والاجتماعي، والإعلامي، فإننا قد عمدنا إلى إشراك نخبة من هؤلاء وأولئك فى مؤتمرنا وكثير من أعمالنا الفكرية، تأكيدًا منا على أن القضية أكبر من أى فصيل بعينه ، وعلى أنها قضية وطن، وقضية أمة، وقضية عصر، وقضية جيل، بل قضية أجيال، وإن شئت فقل : إنها قضية مصيرية لوطننا وأمتنا وثقافتنا، وواجب شرعى تجاه ديننا العظيم . ولعل اختيار مدينة الأقصر مكانا لعقد المؤتمر يحمل دلالات عديدة تصب فى اتجاه التجديد، من أهمها التأكيد على تعايش الإسلام مع الحضارات المختلفة والمعتقدات المختلفة، حيث تتعانق المساجد مع المعابد والمعالم الأثرية والحضارية، وهو ما أردنا أن نرسل من خلاله رسالة تبرز نظرة الإسلام المتسامحة تجاه جميع الحضارات، وحرصه على استيعابها والتعايش معها، بل إنه أكثر دين حافظ على معالم الحضارات المختلفة . مع تأكيدنا أن أى جهد يبذل فى هذا الاتجاه بنيّة صادقة لا يمكن أن يذهب هدرًا، إذ إن كثيرًا من الناس الآن صاروا أكثر وعيًا وفهمًا لطبيعة ديننا الإسلامى السمح، وأكثر رفضا لكل ألوان التشدد والتطرف والفكر المنحرف، مدركين أنه لا علاقة لها بالإسلام ولا علاقة للإسلام بها، غير أن الطريق ما زال طويلاً، والجهد المطلوب ما زال كبيرًا، والأمانة ما زالت ثقيلة، مما يتطلب حركة جماعية مؤسسية فى المؤسسات: الدينية، والثقافية، والعلمية، والتعليمية، والتربوية، والشبابية، والمجتمعية، وهو ما نعمل عليه الآن، ونبنى عليه فى المستقبل، حتى نحصن شبابنا ومجتمعنا وأمتنا من الفكر المتطرف، ونبيّن للعالم كله مدى سماحة ديننا وبراءته من التطرف والإرهاب براءة الذئب من دم ابن يعقوب، من خلال لقاءاتنا ومؤتمراتنا وموفدينا ومبعوثينا لجميع دول العالم، ومن خلال مطبوعاتنا المترجمة، ومراكز التواصل العصرية المتعددة، وإن كنا نؤمن أن هذه الجهود ما زالت فى حاجة مُلحّة إلى عقد ينظمها، لتؤتى ثمرها وأكلها على الوجه الأكمل بإذن الله تعالى. على أن قضية الخطاب الدينى إنما ترتبط ارتباطا وثيقا بتفكيك الفكر المتطرف وكشف زيفه وبطلانه وضلاله وإضلاله، حتى نكشف عمالة وخيانة وضلال معتنقيه، ونحصن أبناءنا وشبابنا ومجتمعاتنا من شروره، ونعالج أسبابه، ونعمل على إزالتها، وهو الشق الثانى من مؤتمرنا المزمع عقده نوفمبر الجارى إن شاء الله تعالى . لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة