كان كيم فيلبي موظفا ذا منزلة رفيعة في القوات السرية( المخابرات) البريطانية, وقد أدي هروبه المفاجئ ولجوؤه إلي الاتحاد السوفيتي( السابق) إلي تأكيد الشكوك التي دارت حوله باعتباره عميلا للروس. وبعد عمليتي لجوء مماثلتين لاثنين من زملائه, ظهر فيلبي في فيلم إخباري بريطاني قصير وهو ينكر أنه كان خائنا. وعلي الرغم من أنه بدا ظاهريا واثقا بنفسه, فإن إبطاء حركة الفيلم, بعد ذلك, قد كشفت عن ارتعاشات معينة في الوجه دالة علي الضغوط النفسية التي كان يعانيها, وقد أصبح معروفا أنه قد ابتسم ابتسامة عريضة سخيفة مباشرة عقب إنكاره تهمة التجسس. وقد شوهدت الابتسامة السخيفة نفسها التي لا تتناسب مع الموقف لدي شاب ظهر علي إحدي شاشات التليفزيون الأمريكية مستغيثا طالبا المساعدة من اجل عودة آمنة لخطيبته المفقودة, وهي التي ثبت بعد ذلك أنه قد قتلها قبل هذه المناشدة بأيام قلائل, وأخفي جثتها تحت ألواح أرضية أحد المنازل.. وخلال أزمة ووترجيت ذكر الخبراء أن ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق(1913 1994) كان يكذب عندما فغر فاه( أو فتح فمه) بطريقة معينة, وكذلك ليونيد بريجنيف(19821906) الرئيس السوفيتي الأسبق كان يكذب عندما رفع حاجبي عينيه مندهشا في أحد المواقف, وأن بيل كلينتون كان يكذب متعمدا بينما يشير بإصبعه ويتحكم في تعبيرات وجهه وهو يؤكد أنه لم يقم أية علاقة مع المتدربة بالبيت الأبيض مونيكا لوينسكي. في لسان العرب لابن منظور هناك اسماء كثيرة لمن يكذب, فيقال: رجل كذاب, وكاذب, وتكذاب, وكذوب, وكذوبة, وكذبة, وكذبان, وكيذبان, ومكذبان, وكذبذب, إلخ..., وفي التنزيل العزيز: وكذبوا بآياتنا كذابا وفيه أيضا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا أي كذبا, وأيضا قوله تعالي فما يكذبك بعد بالدين وفي سورة يوسف أيضا: وجاءوا علي قميصه بدم كذب أي مكذوب غير حقيقي في إشارة إلي إخوة يوسف عندما طرحوه في الجب وأخذوا قميصه ولطخوه بدم الجدي وقدموه إلي أبيه. ووفقا لما جاء أيضا في بعض الموسوعات الحديثة مثل الويكيبيديا فإن الكذب هو أن يخبر الإنسان عن شئ بخلاف الحقيقة ويكون ذلك إما بتزييف الحقائق جزئيا أو كليا, أو اختلاق روابات وأحداث جديدة بنية الخداع وقصد التحقيق لهدف معين قد يكون ماديا أو نفسيا أو اجتماعيا أو سياسيا انتخابيا. وقد جاء تحريم الكذب في القرآن الكريم في سورة غافر في قوله تعالي إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب, ويرتبط الكذب بالنفاق, كما في الحديث الشريف: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا, ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتي يدعها: إذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا وعد أخلف, وإذا خاصم فجر( صحيح مسلم). وجاء في الحديث الشريف أيضا: يظل المرء يكذب ويتحري الكذب حتي يكتب عند الله كذابا, وتعني لفظة التحري هنا: الاستمرار, المواصلة, الاستمراء, الاستبطان, الاستكشاف, الغوص, التعمق, الدخول شيئا فشيئا في أعماق الكذب الخادعة, وفي الموطأ للإمام مالك في حديث صفوان بن سليم أنه قيل لمحمد صلي الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ قال نعم, فقيل له: أيكون بخيلا؟ قال نعم, فقيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال لا. وجاء في العهد القديم أيضا: لا تسرق, ولا تكذب, ولا تغدر بصاحبك( سفر اللاويين). عندما يحاول الناس إخفاء مشاعرهم فإنهم قد ينجحون في خداع جهاز كشف الكذب, وقد ينجحون في التحكم, بدرجة جيدة, في تعبيرات وجوههم, لكنهم يفشلون فيما يتعلق بحركات أجسامهم, فتنفضح هذه المشاعر. وقد كان فرويد يقول عن المريض النفسي الذي يتوقف فجأة عن الاستمرار في سرد مشكلاته إنه عندما يصمت بلسانه, فإنه يثرثر بأصابعه. هكذا وجد العلماء أن الكذب قد يصعب كشفه من مراقبة الوجه, وبخاصة عندما تعلو ذلك الوجه ابتسامة خادعة تحاول أن تتظاهر بقناع يشبه وداعة الأطفال أو نومهم الملائكي, لكن هذا الكذب قد يتم اكتشافه أيضا من خلال تلك الحركات غير الضرورية التي تقوم بها اليد في اتجاه الوجه, أو نحو الحلق, أو الأنف, أو الأذن, وقد يضعون يدهم مفتوحة فوق صدرهم, وهي حركات تبدو وكأنها محاولات جزئية رمزية لا شعورية لتغطية الفم ومنعه من الاستمرار في الكذب, كذلك يزيد الكذابون من استخدام حركات هز اليدين في تعبير عن اللامبالاة أو الاستهجان, ومن الإشارة بالإصبع السبابة في مواجهة عدو متخيل أو معلوم, ومن التنغيم لطبقات الصوت, ومن التبسم بمناسبة وبدون مناسبة, ومن مخاطبة انفعالات الآخرين أكثر من التوجه المنطقي نحو عقولهم. كذلك يتلوي الكذابون في حركاتهم ويتململون علي نحو كبير, ويحركون رؤوسهم وبطونهم يمنة ويسرة, كما لو كانوا غير مرتاحين بشكل كبير مما يفعلونه, أو ربما كانوا راغبين في الهروب من هذا الموقف برمته بالمزيد من الكذب. ومن علامات الكذب أيضا: البطء في بدء الكلام, تحاشي التحديق بالعين في عيون الآخرين أو وجوههم أو نحوهم, التغييرات الكثيرة الخاصة بأوضاع الجسم, التوقفات المؤقتة غير المكتملة في الكلام, الابتسام المختزل أو السريع, الكلام الأبطأ, ارتفاع درجة الصوت وحدوث أخطاء في الكلام وعثرات فيه, تجنب الإشارة إلي الذات, والإكثار من القول: نحن, جماعتنا, أخوتي... ألخ, تكلف الجدية المصحوبة بابتسامة العارف ببواطن الأمور. وتكشف تحليلات الحركة البطيئة للصور الفوتوغرافية الخاصة بالكاذبين أحيانا عن وجود تعبيرات قلق صغيرة سريعة التلاشي والزوال لديهم, ومن هذه التعبيرات مثلا: التكشيرات التي تدوم كسرا من الثانية فقط ثم تختفي, وأيضا اتساع بؤبؤ العين, التعبيرات اللفظية المختصرة. وعندما تزداد قدرة المرء علي الكذب فقد لاحظ العلماء أن الكاذبين المحترفين ينظرون دائما بعينين طارفتين نصف مفتوحتين ويتحاشون التحديق في عيون الآخرين, وقد يرنون بأعينهم إلي أعلي كما لو كانوا ينظرون بها إلي السماء يناشدونها أن تنقذهم من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه. قال الفيلسوف الألماني نيتشه ذات مرة لاحد أصدقائه: أنا لا أشعر بالضيق لأنك كذبت علي, بل إنني أشعر بالضيق لأنني لن أصدقك بعد الآن, وقديما قال الفيلسوف اليوناني أرسطو مكررا ما قاله سقراط قبله: الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب, وحديثا قال مؤلف قصص الرعب الأمريكي الشهير ستيفن كينج: إن ثقة الأبرياء هي الأداة القوية التي يستفيد منها الكاذبون ويوظفونها لمصلحتهم. لعلنا نتذكر هنا ذلك البيت الشعري الشهير لزهير بن أبي سلمي: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفي علي الناس تعلم وهناك أمثلة كثيرة في أيامنا الصاخبة المرتبكة تدل علي الانتشار الكبير للكذب وعلي الحضور الكثيف للكاذبين, وللأسف الشديد فإن ذلك كله يحدث متسترا بالدين ومتقنعا بالأخلاق ومرتديا عباءة الخير والتقوي والورع والوطنية والمحبة للوطن والمواطنين, فياله من كذب أشر! ويالهم من كذابين أشرين!! فضح الله كذبهم وادعاءاتهم إلي يوم الدين وحمي مصر من كذبهم وشرورهم. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد