لم يستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته (سنة 571 ه -632م) أحدا من أصحابه، وترك قيادة الأمة شورى بين المسلمين؛ فسارعت أكبر قوتين (المهاجرون والأنصار) إلى عقد اجتماع عاجل في سقيفة بني ساعدة، شمال غرب المسجد النبوي، وترشح رجل من كل منهما، فرشح الأنصار سعد بن عبادة، ورشح المهاجرون أبا بكر، وانتهى الأمر بفوز الأخير - رضي الله عنه - بتأييد الأغلبية. وتأكدت بيعة السقيفة بعد ذلك ببيعة أخرى عامة من جموع الناس في المسجد النبوي، في أول انتخاب حر مباشر تشهده الأمة، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدقائق، كأنها إشارة إلى أنه لا يتولى الحكم في الأمة إلا حاكم يأتي برضى الأغلبية، واختيارها الحر، في انتخاب مباشر، يخوضه أكثر من منافس. لكن اختيار أبي بكر -رضي الله عنه- للقيادة لم يستند إلى عواطف أو أهواء أو "تربيطات"، وإنما إلى معايير محددة، وهو ما تبارى القوم في استعراضه، والنقاش حوله، قبل أن ينتهي الأمر بالاتفاق على أبي بكر، لا لشئ سوى جدارته وأهليته واستحقاقه للمنصب. من هنا تأتي أهمية استعراض بعض المعايير التي أرساها الإسلام في اختيار أصحاب المناصب والرئاسات والحكام.. كما يلي. 1- امتلاك الرؤية الشاملة والمشروع الإصلاحي: أول معيار في المرشح للمناصب والرئاسات هو امتلاكه للرؤية أو المشروع أو البرنامج الإصلاحي؛ ذلك أنه ما من نبي، ولا رسول، ولا قائد في الإسلام إلا وكان يتمتع برؤية واضحة لمشروع التغيير، وأنموذج النهضة، وبرنامج الإصلاح، وذلك مبثوث في عشرات الآيات القرآنية، ويلخصه النبي شعيب عليه السلام بقوله لقومه مدين :"إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ".(هود : 88 ). وقد استند كل نبي في مشروعه الإصلاحي إلى ثلاثة أمور أولها تصحيح العقائد الفاسدة، والأفكار الباطلة، والمفاهيم الخاطئة، كما حدث من إبراهيم عليه السلام مع أبيه..قال تعالى :"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِين".(الأنعام : 74). تلك هي البداية السليمة للتغيير..تغيير المفاهيم، وإصلاح المعتقدات، انطلاقا من شعار العبودية لله :"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ".(النحل:36). الأمر الثاني محاربة كل نبي أو رسول للانحرافات السلوكية التي وقع فيها قومه، ومقاومته لفساد الأخلاق والمعاملات، وغيرها من الآفات التي شاعت فيهم.. وهكذا رأينا لوطا -عليه السلام- يصرف همته إلى محاربة انتشار فاحشة "إتيان الذكران شهوة من دون النساء" في قومه. وانصرف شعيب عليه السلام إلى محاربة آفة تطفيف المكيال، ونقص الميزان، وبخس الناس أشياءهم، في قومه. فيما انصرف موسى -عليه السلام- إلى مقاومة طغيان الحاكم، واستبداده، وتأليهه لنفسه، وإضفاء قداسة على تصرفاته.. قال تعالى :"اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى".(النازعات:17)، وتكرر الأمر نفسه في سورة طه (الآية 24)، وكذلك قوله تعالى :"اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ".(طه:43). الأمر الثالث هو إقامة المشروع الإصلاحي النبوي القائم على قواعد العدل والإنصاف والمساواة والحرية والكرامة والشورى والرحمة.. كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في النموذج الذي أرساه بالمدينة المنورة، وبسطه الخلفاء الراشدون من بعده في أقطار الأرض، متبعين المنهج النبوي. ومن النماذج الرائدة التي حدثنا القرآن عنها أيضا في امتلاك المشروع الإصلاحي للقيادة والتغيير- ذو القرنين.. فقد قص الله قصته في أواخر سورة الكهف، وأبان أنه أحاط بهيمنته المغرب والمشرق، فكان حريصا على إرساء قواعد الإصلاح والتغيير، وتطبيقها في الشعوب التي حكمها، ومن أبرزها: المساواة، ومكافحة الظلم، وردع الظالم، وحماية المظلوم، ونشر العدل، وإثابة المحسن، ومعاقبة المسيئ. "قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا(88)".(الكهف). وكان القضاء على الفساد محورا آخر من محاور دعوته، ومشروعه الإصلاحي.."قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً".(الكهف:(94..فتبنى قضية هؤلاء القوم في القضاء على إفساد يأجوج ومأجوج، وأعلن مشروعا قوميا جمع الناس حوله لبناء السد أو السور الذي يحميهم، ويوفر الأمن لهم، وينشر الاستقرار فيما بينهم. الرؤية الشاملة والمشروع الإصلاحي وجدناهما أيضا في قصة سيدنا يوسف عليه السلام لإصلاح حال المصريين..مصداق ذلك قوله "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ".(يوسف:55). لكن السؤال التالي مباشرة هو: ما الإمكانات والقدرات التي يجب أن تتوفر في المرشح للقيادة.. إذ لا يكفي أن يمتلك مشروعا أو رؤية فقط.. بل لابد معهما من امتلاك الحد الأدنى من الأدوات والآليات والإمكانات اللازمة لتنفيذه.. وهذا ما يتناوله المقال المقبل. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد