لا جدال حول متانة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية وأهميتها أو بالأحري ضرورتها لكلا الطرفين, فالعلاقة بين الطرفين هي علاقة تحالف استراتيجي. لا يمكن أن تنكسر علي خلفية خلافات أو اختلافات في الرؤية بشأن قضية أو أخري, كما أنها علاقة خارج تقلبات المسرح السياسي في كل من الدولتين, إذ أن ثمة اتفاقا واضحا علي أهمية العلاقة وضرورتها بين الأحزاب والاتجاهات السياسية المختلفة في كلتا الدولتين, فمن غير المتصور مثلا أن ينعكس تغير التيار الحاكم في أي منهما علي مستوي تلك العلاقة. فالعلاقة بين الطرفين هي بالفعل علاقة زواج كاثوليكي, يكاد يكون فيه الطلاق مستحيلا.** وليس من الصعب تصور أن المتزوجين كاثوليكيا تنشأ بينهما خلافات تفرضها تفاصيل الحياة, ولكنهما يتعاملان معها علي أرضية عدم وجود امكانية للانفصال, ومن ثم فغالبا ما يجدون حلولا لكل خلافاتهما مهما يطل الوقت, ومهما تكثر تلك الخلافات. والعلاقة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل وهي تعبر عن تحالف استراتيجي أو زواج كاثوليكي تسمح بوجود خلافات تختلف حدتها بطبيعة الموضوع المثار بشأنه الخلاف ومدي تأثيره علي مصالح كل طرف أو أهميته بالنسبة له. لم ينعكس الخلاف في الرؤية بين إسرائيل والولاياتالمتحدة بشأن إيران علي أهميته في إثارة أحاديث حول وجود أزمة بين الطرفين, وكذلك الحال بشأن كيفية التعامل مع سوريا, ومع ذلك فإن الخلاف بين رؤية نيتانياهو وأوباما حول عملية التسوية السلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ مجئ كل منهما قبل عام أو أكثر أطلق العنان للحديث عن أزمة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية, رغم أن الأمور لم تصل بعد إلي درجة الأزمة بمعناها المعروف. فالأزمة هي موقف مفاجئ يهدد مصلحة عليا تكتنف المعلومات المتاحة بشأنه الغموض الكبير والوقت المتاح للتصرف ضيق. أي أن ما يحدث الأن لا يتوافر من عناصر الأزمة إلا أنه يهدد مصلحة ربما تكون عليا في الوقت الراهن للولايات المتحدة, بينما لا يكون غموض يعتد به في الموقف ولدي الطرفين وقت للتعامل معه, كما أن الموقف لم يكن مفاجئا بالمرة. فتطور الموقف الإسرائيلي في تحدي الإرادة الأمريكية خلال العام الماضي بشأن المستوطنات بشكل فاق قدرة الإدارة الأمريكية علي تحمله هو الذي أثار الحديث عن أن ثمة أزمة بين إسرائيل والولاياتالمتحدة. ففي البداية عبر الرئيس الأمريكي أوباما عن تصور طموح لتحقيق اختراق في عملية التسوية, وبدا متفائلا بقدرته علي تليين الموقف الإسرائيلي فوضع شرطا أساسيا هو ضرورة وقف الاستيطان تماما أثناء المفاوضات, وهو الموقف الذي تماهي إلي حد بعيد مع الموقف الفلسطيني والعربي, فزاد الاستياء الإسرائيلي من الولاياتالمتحدة التي لم توجه علي حد قول' موشيه يعالون' أي انتقاد علني للفلسطينيين عما سماه تحريضهم ضد إسرائيل, وربما كان ذلك سببا أساسيا من أسباب التعنت الإسرائيلي في تلبية الرغبة الأمريكية. ومع ذلك بدا نيتانياهو حريصا علي عدم الاصطدام مع الولاياتالمتحدة, فطرح فكرة الوقف المؤقت للاستيطان مستندا إلي عدم قدرته علي الإعلان عن وقف الاستيطان تحاشيا لانهيار ائتلافه الحكومي وكان أن تراجع أوباما وقبل بتلك الصيغة. ربما أغري ذلك التراجع نيتانياهو فتمادي في تعنته, إلا أنه ومع إعلان الولاياتالمتحدة لفكرة المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي قبلها الفلسطينيون بدا أن الولاياتالمتحدة لن تكون مستعدة لإفشال ذلك المسعي الذي بات يمثل الحد الأدني لتحريك عملية التسوية. ثم تصاعد الخلاف نتيجة تعمد إسرائيل إهانة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء زيارته لإسرائيل, بإعلان الحكومة الإسرائيلية البناء في1600 وحدة سكنية في القدس, فأجل المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط جورج ميتشل, رحلته للشرق الأوسط. وهو الأمر الذي أشار بوضوح إلي أن الولايات قد قرأت هذا الموقف باعتباره تصعيدا إسرائيليا لا يمكن قبوله أو تبريره في ذلك التوقيت. وجاءت مكالمة هيلاري كلينتون التي وبخت فيها نيتانياهو رغم انحيازها الشخصي لإسرائيل لتؤكد أن الرئيس أوباما لن يبتلع الإهانة بهذا الشكل, والتي تعني محاولة إظهاره بمظهر العاجز في مواجهة نيتانياهو, الامر الذي سينعكس حتما بالسلب علي صورة أوباما خارجيا وداخليا. وبالفعل انعكس ذلك في توجهات الرأي العام الأمريكي, ففي استطلاع للرأي أجراه' معهد زغبي' قبل عدة أسابيع اتضح أن51% من الأمريكيين يرون أن واشنطن غير قادرة علي وقف الاستيطان الإسرائيلي, وأن الغالبية تري أن الولاياتالمتحدة تفقد هيبتها عالميا بسبب عدم قدرتها التأثير علي إسرائيل فيما يتعلق بموضوع الاستيطان. وهنا وضح أن الخلاف قد وصل إلي ذروته, ولم يخفف منه كثيرا اعتذار نيتانياهو عن الإعلان عن البناء الاستيطاني أثناء وجود نائب الرئيس الأمريكي. وهو الأمر الذي يدفع إلي القول أن تفجر الخلاف بين نيتانياهو وأوباما لم يكن بسبب الاستيطان بقدر ما هو بسبب الطريقة الاستفزازية التي تعامل بها نيتانياهو بخصوص هذا الملف. فهل يمكن أن يتطور ذلك الخلاف إلي أزمة تؤثر علي علاقة الدولتين؟. في الواقع فإن من الصعب تصور أن يتطور أي خلاف بين إسرائيل والولاياتالمتحدة إلي أزمة, ومن الأصعب تصور أن تؤثر أزمة ما علي العلاقة بين الدولتين. والخلاف الراهن ليس الأول بين الدولتين وعلي الأرجح لن يكون الأخير, ولكن المهم أن الجانبين قد نجحا في تجاوز جميع الخلافات السابقة دونما تأثير علي علاقتهما, أي أنهما قد كونا آلية للتعامل مع خلافاتهما تمنع تفاقمها إلي أزمة. وربما يفسر ذلك بشكل أو بأخر محاولة نيتانياهو إظهار عدم الانزعاج مما يحدث مع الولاياتالمتحدة حاليا, حين قال في أول تعليق له علي القضية' أن أي اختلاف مع الولاياتالمتحدة يمكن أن يحل, فحتي لو كانت هناك خلافات بيننا, فهي خلافات بين الأصدقاء'. فهل ما يحدث من خلافات بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل هو خلافات غير جدية أو خلافات مصطنعة طالما أنها تدار بطريقة لا تؤثر علي العلاقة الإستراتيجية. والمؤكد هنا أيضا أن الخلاف الحالي خلاف جدي بل إنه يتعدي في جديته أي خلاف سابق بشأن التسوية أو المستوطنات, ولكنه خلاف مهما تبلغ شدته يبقي دون الأزمة التي تؤثر علي أو تطيح بالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية. فالرئيس الأمريكي علق عقب انتهاء زيارة نائبه لإسرائيل قائلا في حديث مع شبكة فوكس التليفزيونية بأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لا تمر بأزمة رغم الخلافات القائمة بين البلدين حول مسألة البناء في القدس, وأن إسرائيل تعتبر إحدي اقرب الدول الحليفة للولايات المتحدة وهناك علاقة خاصة بين البلدين لن تتلاشي, منوها بأن العلاقات بين الأصدقاء تشهد أحيانا خلافات. ولكنه أكد في اللقاء نفسه أن مشاريع البناء الجديدة في القدس لا تشكل عاملا مفيدا في تنشيط عملية السلام, وقال إن هناك خلافا حول سبل تحريك عملية السلام. كما أن الخلاف الحالي الذي يعكس كما قال الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان تحولا هيكليا يحدث تحت السطح فيما يخص العلاقات الأمريكية الإسرائيلية, ناتج بالأساس عن تغير أولوية السلام علي أجندة كل من الطرفين ففي العقد الأخير, كما يري فريدمان, تحولت عملية السلام الإسرائيلي- الفلسطيني بالنسبة للإسرائيليين من ضرورة إلي هواية( تراجعت علي أجندة أولوياتهم). وخلال العقد الأخير, تحولت عملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني بالنسبة للأمريكيين من هواية إلي ضرورة, إلي درجة أن يعتقد81% من الأمريكيين في الاستطلاع السابق الإشارة إليه أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يضر بمصالح الولاياتالمتحدة, وبالتأكيد فإن ذلك التحول قد فرضته الكثير من التحولات في الأراضي المحتلة وفي قضايا منطقة الشرق الأوسط خاصة إيران والعراق. ويبقي في النهاية تأكيد أن الجدل بشأن طبيعة ما يحدث بين إسرائيل والولاياتالمتحدة يستند إلي المنظور الذي يتم به التعامل مع العلاقات الخاصة بين الدول, فالنظرة السائدة بين العرب تري أن الخلاف بالضرورة يؤدي إلي أزمة, بينما حقيقة الأمر أن العلاقات مهما تكن خاصة أو إستراتيجية بين الدول لا تعني بالضرورة عدم وجود خلافات وعدم وجود طرق لتسويتها في إطار بقاء العلاقة علي ما هي عليه, والأمر لا ينطبق فقط علي علاقة إسرائيل بالولاياتالمتحدة ولكنه حادث في علاقة إسرائيل مثلا بتركيا, فالخلافات الأخيرة بينهما لم تنعكس في إنهاء العلاقة, وتلك هي العلاقات الدولية القائمة علي أسس سليمة.