ارتفاعات الأسعار صارت تشكل مادة أساسية للحديث في الغالبية العظمي من بيوتنا. الأمر هنا لا يقتصر علي جنون أسعار الخضراوات واللحوم والدواجن, بل يمتد ليشمل أيضا فواتير الكهرباء والمياه ومصروفات المدارس. الأرقام الرسمية تقول إن معدل التضخم السنوي في نهاية شهر سبتمبر بلغ9.21%. التفاصيل المتعلقة بمعدلات الزيادة في أسعار بنود الطعام والشراب والبنود المتعلقة بالمسكن والمياه والكهرباء, تشير إلي معدلات أعلي كثيرا. أسعار الخضراوات ارتفعت بأكثر من32%, الفواكه15.5%, اللحوم11.5%, فواتير المياه والخدمات المتعلقة بالمسكن26.7%, الكهرباء والغاز ومواد الوقود26%. معدل التضخم الذي تشير إليه الأرقام الرسمية عادة, والذي يقوم بإعداده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, يعبر عن متوسط الزيادة في أسعار مجموعة السلع والخدمات التي تشكل بنود الإنفاق المعتادة للأسرة المصرية, أخذا في الاعتبار أهمية كل بند ضمن إجمالي إنفاق الأسرة. فعلي سبيل المثال, يستحوذ بند الطعام والشراب علي نحو40% في المتوسط من ميزانية الأسرة, و المسكن والمياه والكهرباء والغاز والوقود علي نحو18.3%. وبالتالي فإن أي ارتفاعات في أسعار هذه البنود تؤثر بقوة في مستوي معدل التضخم ككل. ما يعنينا هنا أنه إذا كانت البيانات الرسمية تشير إلي أن أسعار السلع والخدمات التي تقوم الأسرة المصرية في المتوسط بالإنفاق عليها قد ارتفعت بنسبة9.2% عن العام الماضي فإن هذا يعني أن تكاليف المعيشة قد زادت بنسبة9.2% وأنه ما لم يرتفع دخل الأسرة بالنسبة نفسها فإنها ستضطر لتطبيق مبدأ اللي معهوش ما يلزموش وتقوم بتخفيض أو إلغاء الإنفاق علي بعض السلع والخدمات, أي في كلمة واحدة تخفيض مستوي معيشتها. وفي تصوري أن هذا هو الخطر الذي تواجهه الآن نسبة كبيرة من الأسر المصرية. فعلي مستوي الموظفين الحكوميين يؤكد البيان المالي للموازنة العامة للدولة أن الزيادة في بند الأجور لا تتجاوز8.6%, أي بما يقل عن معدل التضخم. بل إنه في ظل ضبابية تفعيل الحد الأقصي للأجور فليس من المستبعد أن يكون المستفيد الأكبر من تلك الزيادة أصلا هم كبار العاملين بالدولة وليس جمهور العاملين, الذين يصرون علي أن أجورهم قد انخفضت بعد تطبيق قانون الخدمة المدنية. المؤكد في كل الأحوال أن الزيادة في أجور الموظفين الحكوميين خلال السنة المالية الحالية لن تكفي لمواجهة الزيادة في المستوي العام للأسعار, خاصة بعد إلغاء العلاوة الاجتماعية التي كان يتم إقرارها سنويا لمواجهة التضخم. أما بالنسبة للعاملين في القطاع الخاص, والذين يشكلون النسبة الغالبة من العاملين, فمن ذا الذي يجرؤ علي الحديث عن زيادة الأجور بما يتناسب مع ارتفاع معدلات التضخم, إذا كانت الحكومة قد عجزت حتي الآن عن إلزام القطاع الخاص بتطبيق الحد الأدني للأجور أصلا, رغم كل ما تؤكده البيانات الرسمية من أن متوسط أجور العاملين بالقطاع الخاص تقل بنسبة22% عنها في الحكومة والقطاع العام؟ ثم من يجرؤ علي الحديث عن زيادة أجور العمال الزراعيين وهم مستبعدون أصلا من قانون العمل ومظلة حمايته؟ الواقع أن الأسرة المصرية تواجه بالفعل خطر تآكل القوة الشرائية لدخولها وانخفاض مستوي معيشتها, ليس فقط بسبب ارتفاع المعدلات الحالية للتضخم, وإنما أيضا لأن تلك المعدلات مرشحة للمزيد من الارتفاع بعد تطبيق ضريبة القيمة المضافة والزيادات الجديدة في رسوم الخدمات الحكومية. التوقعات الرسمية لوزارة المالية تشير إلي أن معدلات التضخم خلال السنة المالية الحالية ستتراوح بين10% و11%, أي أننا مقبلون علي المزيد من ارتفاع تكاليف المعيشة. وتزداد الصورة تعقيدا إذا أضفنا عنصر السيطرة المتزايدة للاحتكارات الأجنبية علي قطاع الصناعات الغذائية, والذي تصاعدت وتيرته خلال الأعوام القليلة الماضية. المحتكر يفعل ما بدا له لأنه يعلم أنه ينفرد بالسوق وأن المستهلك لا حول له ولا قوة. المحتكر يتحكم ليس فقط في سعر ومستوي جودة السلعة أو الخدمة, وإنما يمكن أن يتحكم أيضا في مدي توافرها, فما بالنا لو كان ذلك المحتكر شركة أجنبية جاءت لتراكم الأرباح ولا يمكن أن تكون معنية بتوفير سلع منخفضة السعر للمواطن المصري؟ الحكومة تعلن أنها تستهدف تخفيض معدلات التضخم إلي ما يتراوح بين7% و8% فقط خلال عامين, والبنك المركزي المصري يتحدث عن تحقيق استقرار معدلات التضخم في الأجل المتوسط, أما نحن فنتحدث عن ضرورة مواجهة الارتفاع في المستوي العام للأسعار الآن, باعتباره خطرا يهدد بتخفيض مستويات المعيشة للشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة, والعصف بالحاجات الأساسية لنحو27% من السكان يقعون تحت خط الفقر. لابد من وضع حد أقصي لهامش الربح في مجالات النشاط المختلفة, بما في ذلك تجارة الجملة للخضراوات والفاكهة والمواد الغذائية, حتي لا يترك المستهلك تحت رحمة الاحتكارات. لابد من تفعيل أهم أدوات الحكومة للسيطرة علي الأسعار وهو تدخلها المباشر كمنافس للاحتكارات الصناعية والتجارية وتوفير السلع والخدمات بأسعار منخفضة. لا بد من تدعيم ورفع كفاءة وصلاحيات كل من جهاز حماية المنافسة ومكافحة الاحتكار وجهاز حماية المستهلك. لا بد من التوقف عن أي خطوة في اتجاه زيادة أسعار المنتجات البترولية خلال السنة المالية الحالية, فالتراجع في الأسعار العالمية للبترول يوفر بالفعل ما يتراوح بين25% و30% من التكاليف المقدرة لدعم الطاقة في الموازنة العامة. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى