سجلت العسكرية المصرية نموذجا يحتذى به فى المعركة على أرض الجبهة، حينما قهرت العدو الإسرائيلى فى نصر أكتوبر 1973، وتبارى الجنود فى مختلف الأسلحة لتقديم أفضل مالديهم،واثبات قدراتهم القتالية دفاعا عن الأرض، حيث ساعدت حرب المعلومات والخداع الاستراتيجى على رسم ملامح النصر قبل بدء المعركة، وسطرت قصص خداع العدو على أيدى المخابرات المصرية فى نصر أكتوبر حروفا وكلمات لتبقى فى ذاكرة التاريخ ترويها الاجيال ،وتمثل مصدر فخر لآبائهم والأجداد نعرض أهمها بمناسبة ذكرى مرور 42 عاما على حرب الكرامة وانتصار الجيش المصرى العظيم فى حرب اكتوبر عام 1973 ومازالت أسرار الانتصار الذى حققه الرئيس الراحل محمد أنور السادات بدهائه وحنكته تتوالى حتى اللحظة، فقد سجلت خطة الخداع الإستراتيجى أكبر مفاجآت الحرب وانجازا ضخما خططت له المخابرات المصرية وشاركت فيه القيادة السياسية وعناصر المخابرات فى الداخل والخارج وحتى فى داخل إسرائيل وذلك للتغطية على استعدادات مصر للحرب ولإيهام العدو بأن الوقت مازال مبكرا جدا بالنسبة للمصريين حتى يخوضوا حربا. خطة الخداع بدأت قبل المعركة بعام أنشأت الحكومة المصرية محطة إذاعية تذيع باللغة العبرية وتعمل على مدى 12 ساعة يومياً، وكانت هذه المحطة موجهة إلى إسرئيل وتذيع موسيقى غربية خفيفة تتخللها نشرات إخبارية وتعليقات تدعو للسلام. وصاحب ذلك خطة خداع عملياتية فى جبهة القتال وعلى طول القناة، ويمكن حصر أعمال الخداع فى جبهة القتال كالآتي: خدعة تكرار المناورة التدريبية: فطوال صيف عام 72 كانت القوات المصرية تتدرب على عبور القناة تحت سمع وبصر قوات العدو، ففى مواجهة أجهزة التصوير الإسرائيلية أعد المصريون شواطئ للنزول عليها، وبنوا الجسور وعرضت الأفلام التى التقطت فى ذلك اليوم على التليفزيون الإسرائيلي، وقام المصريون مرة واحدة على الأقل فى عام 73 بتمثيل عملية العبور بأقل تفاصيل ممكنة، ونقلت الصحف المصرية سير هذه العملية التى شهدها جنود العدو فى خنادقهم على الضفة الشرقية للممر المائي، وهذا التكرار للتدريب على عملية العبور أكبر خدعة للعدو، إذ إنه لم يثر فيهم سوى الضحك والاستهزاء من عدم قدرة القوات المصرية على القيام بذلك وعبور أكبر خط دفاعى عرفه التاريخ، والشيء المثير هو أن عبور القوات المصرية يوم 6 أكتوبر كان بالضبط نفس ما حدث قبل ذلك بكل تفاصيله الدقيقة، وهكذا كان العدو يعتقد أنه تدريب اعتيادى يقع أمام عيونه، وهو حقاً كذلك، فى حين أنه كان فى نفس الوقت تدريباً عملياً على خطة العبور. الضربة الجوية الزائفة على الرغم من أن الطيران الإسرائيلى كان فى درجة الاستعداد القصوى منذ ظهر الجمعة 5 أكتوبر، ورغم أن مراكز الإنذار والرادارات الإسرائيلية فى سيناء قامت برصد جميع طلعات الطيران المصرى ظهر يوم 6 أكتوبر، ومع ذلك فإن المفاجأة الكاملة لحقت بهم بسبب أساليب الخداع التى خططت لها بنجاح قيادة القوات الجوية المصرية والتى كان أبرعها بلا جدال رفع درجة الاستعداد القصوى وإعلان حالة التأهب فى جميع المطارات والقواعد الجوية المصرية فى الفترة من 22 إلى 25 سبتمبر، فخلال تلك الفترة التى سبقت ساعة الصفر تتابع خروج الطلعات من مطارات الدلتا والصعيد بشكل متواصل مما أصاب الإسرائيليين بأشد أنواع البلبلة والارتباك، فقد اضطروا إلى إطلاق طائراتهم فى الجو كلما انطلقت طائرة مصرية، وعندما لم تحدث أى هجمات كما توقع الإسرائيليون دب فى نفوسهم الهدوء والاطمئنان، وباتوا على يقين بأن طلعات الطيران المصرى إنما هى لمجرد التدريب. ولذلك عندما تم رصد الطائرات المصرية بعد ظهر 6 أكتوبر برغم تحليقها على ارتفاعات منخفضة للغاية لا تتعدى بضعة أمتار فوق سطح الأرض ظن العدو أنها طلعات تدريبية كسابقاتها، وخلال تلك الساعات الحاسمة وقبيل ساعة الصفر أضاف اللواء حسنى مبارك وسيلة أخرى من التمويه، فقد أجرى ترتيبات دقيقة فى القاهرة واتصالات عاجلة مع طرابلس بعد ظهر يوم الجمعة 5 أكتوبر للإعداد لزيارة أوهم المحيطين به أنه سوف يقوم بها إلى ليبيا وبرفقته بعض كبار الضباط فى مهمة عاجلة تستغرق 24 ساعة، وكلما اقترب موعد إقلاع الطائرة الذى تحدد فى الساعة السادسة مساء 5 أكتوبر كان اللواء حسنى مبارك يؤجل الموعد المرة بعد الأخرى حتى تم تحديده نهائياً ليكون فى الساعة الثانية بعد ظهر 6 أكتوبر، وهو الموعد الحقيقى والفعلى لبدء تنفيذ الضربة الجوية الأولي. خداع الأقمار الصناعية تعتبر هذه الخطوة من أدهى الخطوات التى قام بها الجيش فى خطة الخداع الرهيبة، فقد كان الجيش على دراية كبيرة بأجهزة الاستطلاع الجوى التى تستخدم فى التقاط الصور ونقلها بكفاءة خاصة الأقمار الصناعية المزودة بمعدات التصوير الحرارى التى تستطيع التقاط صور واضحة لتحركات المعدات حتى بعد أن تغادر أماكنها بدقة متناهية، ولم تكن ثمة وسيلة لإخفاء طوابير العربات والدبابات وقطع المدفعية عن عدسات هذه الأقمار التى لا تكف عن الدوران حول الأرض فى مسارات عديدة منتظمة، إلا أنه بالبحث والدراسة المتأنية ثبت أنه بالإمكان خداعها. فقد كان من المعروف لدى خبراء الاستطلاع الجوى المصرى أن هذه الأقمار تحلل الألوان إلى 32 لوناً تتدرج من الأبيض الناصع إلى الأسود القاتم، ثم ترسل مشاهداتها على هيئة أرقام يعبر كل منها عن لون المربع الواضح فى الصورة، وفى مراكز الاستقبال الأرضية يعاد استبدال الأرقام بمربعات لها نفس درجة اللون، فتكون الصورة الحقيقة مرة أخري. وقد نوقشت مشكلة الأقمار الصناعية فى وقت مبكر بعد أن اتخذ قرار الحرب واستقر الرأى على تشكيل مجموعة بحث لدراسة الوسائل الكفيلة بتضليل الأقمار الصناعية، وكانت ثمرة عملها معجزة حقيقية، فقد وضعت مجموعة البحث فى اعتبارها شبكة الطرق المؤدية إلى جبهة القتال ومواصفاتها ثم مدارات الأقمار الصناعية ومواقيت إطلاقها بالثانية، وبعد ذلك قامت المجموعة بوضع عدد من الجداول الزمنية شديدة التعقيد والدقة، بينت الجداول مواعيد تحرك القطارات الناقلة للجنود وأماكن توقفها ومدة التوقف بالثانية، مع إصدار أوامر مشددة باتباع هذه الجداول بمنتهى الدقة، وعلى هذا الأساس كانت الطوابير تتحرك إلى الجبهة فى مجموعات صغيرة فوق طرق مختارة بعناية، ثم تعود العربات الخالية بمجموعات كبيرة فى وقت مناسب لكى يمر من فوقها القمر الصناعى الباحث عن المعلومات، وهكذا استقبلت مراكز دراسة الصور الجوية صوراً كثيرة، ولكنها تؤدى إلى استنتاج معاكس للحقيقة. تدبير مصابيح الإضاءة لم تترك الخطة شيئاً إلا وعملت على توضيحه، فقد توقع رجال المخابرات مشكلة ستحدث عند بداية المعركة، وهى أزمة المصابيح الضوئية (البطاريات)، ذلك أن كمياتها فى الأسواق لا تكفى فى حالة نشوب الحرب مع ازدياد الطلب عليها لظروف الحرب حيث تحظر الإضاءة وقاية من الغارات الجوية المعادية، ولم يكن من السهل تدبير الكمية المطلوبة من هذه المصابيح دون إثارة انتباه المخابرات الإسرائيلية التى سترصد الأمر فى الخارج قبل أن تصل الشحنات المستوردة من الخارج. وجاء الحل على يد أحد الضباط الأكفاء قبل المعركة بثلاثة أشهر حيث أرسل عميلاً مدرباً إلى مهرب قطع غيار سيارات، وأخبره أن له دراية كبيرة بمسالك الصحراء وله صداقات مع رجال الجمارك، وتم الاتفاق بينهما على تهريب صفقة كبيرة من هذه المصابيح المختلفة الأحجام. وبعد وصول الشحنة الأخيرة كان رجال حرس الحدود فى انتظارهما واستولوا على ما معهم وما فى مخازنهم، وتمت مصادرة الكمية كلها وعرضها للبيع فى المجمعات الاستهلاكية بأثمان رخيصة، وبدا الأمر فى شكل عادى تماماً ولا يعير الانتباه لمغزاه الحقيقى وما وراءه واستخدمها الشعب أيام المعركة. نقل المعدات صدرت الأوامر للجيش بنقل ورش الإصلاح والصيانة إلى المواقع المتقدمة خلف الجبهة لتكون الإجابة لأى جاسوس متمرس عندما يقف على الطريق لسؤال سائقى الدبابات أو المدرعات عن وجهتهم لتكون الإجابة العادية التى لا تثير أية شكوك أنهم فى طريقهم إلى الورشة. كما تمكنت المخابرات من إخفاء معدات العبور، وهى الهدف الأساسى للجواسيس بأن قامت مصر بشراء ضعف المعدات اللازمة للعبور ونقلت نصفها علانية من ميناء الإسكندرية إلى منطقة صحراوية فى حلوان، وتم تكديسها على مرمى البصر بالقرب من طريق ممهد وتركت فى مكانها هذا ولم تستخدم أبداً، أما نصفها الآخر الذى استخدم فى عملية العبور أثناء الحرب فقد نقل محاطاً بأقصى درجات السرية إلى الجبهة. كما قامت فرق الشئون الفنية بالجيش المصرى بتصنيع عدد كبير من الدبابات وعربات الرادار الهيكلية وأخفت هذه الهياكل المصنوعة من الخشب داخل حفر مشابهة لحفر المعدات الحقيقية، ولا بد أن قادة العدو الصهيونى كانوا يهزأون من سذاجة المصريين لاستخدامهم طرقاً للتمويه عفى عليها الزمن لم يدركوا إلا بعد فوات الأوان أنها كانت تخفى فى جوفها قوارب من المطاط وبعض المستلزمات التى استخدمت فعلاً فى العبور. إفساد أنابيب ضخ النابالم من أهم أجزاء الخطة تلك المتعلقة بإفساد أنابيب ضخ المواد الملتهبة (النابالم) والتى أقامها العدو الصهيونى على شاطئ القناة، وقد صممت هذه الأجهزة بحيث تضخ على سطح المياه على امتداد القناة مزيجاً من النابالم والزيوت سريعة الاشتعال مع كمية كبيرة من البنزين لتكون حاجزاً رهيباً من النيران كالجحيم يستحيل اختراقه. أجرت القوات المصرية تجارب مشابهة قام بها أبطال الجيش المصرى فتم حفر مجرى صغير بنفس مواصفات قطاع من قناة السويس بمكان ما فى صحراء مصر، وتم ضخ كمية من النابالم على سطح هذا المجري، وقام الأبطال بتجربة للعبور وسط هذه النيران لتحديد نسبة الخسائر التى ستمنى بها القوات إذا عبرت وسط هذا الجحيم، وكانت النتائج مخيفة ومخيبة للآمال حيث كانت درجة الحرارة على سطح الماء أثناء اشتعال المادة يصل إلى 700 درجة مئوية، وقد استشهد عدد من هؤلاء الأبطال دون أن ينجحوا فى عبور المجرى المائى التجريبي، فكانوا بالفعل أول شهداء الحرب قبل أن تبدأ. ترتيب لزيارة أميرة بريطانية للقاهرة يوم 7 أكتوبر أعلن فى القاهرةورومانيا أن المشير أحمد إسماعيل سيكون فى استقبال وزير الدفاع الرومانى يوم 8 أكتوبر لحظة وصوله إلى مطار القاهرة الدولى كما أخطرت مصر السفارة البريطانية عن استعدادها لاستقبال الأميرة يوم 7 أكتوبر، وطارت الأميرة من لندن إلى روما استعداداً للزيارة إلا أن هذه الزيارة لم تتم بسبب إغلاق مطار القاهرة بعد ساعة الصفر. معلومات موشى ديان قدم وزير دفاع العدو الصهيونى موشى ديان- دون أن يدرى بالطبع- إسهامات جليلة فى جمع المعلومات، وذلك عندما ألقى بياناً وافياً أمام الكنيست عن إسقاط طائرة الركاب الليبية المدنية، والتى أسقطتها مقاتلات الفانتوم الصهيونية قبل الحرب بسبعة أشهر والتى أحدث إسقاطها ردود فعل غاضبة واستنكاراً فى أنحاء العالم أجمع، استخلص رجال المخابرات المصرية من حديث ديان الذى أوضح فيه وقت رصد الطائرة ووقت صدور التعليمات للطيارين بالرماية عليها أن الرادار الإسرائيلى يستغرق دقيقتين فى تحديد مسار طائرة تسير بسرعة 750 كيلو مترا/ الساعة وأن قيادة سلاح الجو الإسرائيلى تصدر الأوامر بالإجراء المناسب بعد ثلاث دقائق كاملة.وبهذه الحسبة استطاعت القوات الجوية المصرية وضع جدول ثابت لعملية رصد الرادار الإسرائيلى استفادت منه عمليات القوات الجوية فى تحديد مواعيد الطلعات وتلقين الطيارين مهامهم بشكل دقيق. تسريح الجنود فى يوليو 1972 أصدر الجيش قراره بتسريح 30 ألف مجند، وهو القرار الذى شكل مرحلة مهمة من مراحل الإعداد بقدر ما ساعد على خداع العدو ورسخ مشاعر الاطمئنان فى فكر ووجدان قادته. والواقع أن الاستغناء عن هذا العدد الكبير من المجندين كان جزءاً من تطوير خطة التعبئة العامة فى مصر بعد قرار إيقاف نقل الجنود إلى الاحتياط الذى صدر عام 1967 والذى كان له تأثيره على معنويات الأفراد بعد أن مضى عليهم فى التجنيد ما يقرب من ست سنوات، كما أنه كان يشكل عبئاً مالياً كبيراً دون جدوى لوجود معظمهم خارج التشكيلات المقاتلة، وفى مواقع خلفية ضمن أعداد كبيرة مخصصة لحماية العمق وحراسة المنشآت الحيوية.وأوهم القرار العدو بعدم نية الجيش المصرى خوض أية معركة فى الوقت الراهن، لأنه عادة ما تتم الأمور بطريقة مغايرة تماماً لما جري، فكان يتم إستدعاء جنود الاحتياط فوراً بدلاً من تسريحهم وبجميع الوسائل الممكنة لدعم القوات والتعبئة القتالية.