تذكر زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى موسكو اواخر الشهر الماضي بضرورة تنويع مصر لتحالفاتها الدولية بعدما اقتصر اعتمادها على الولاياتالمتحدة وحلفائها منذ منتصف السبعينيات، تعلمت مصر ان مصلحتها دائما في الحفاظ على علاقة متوازنة بين الشرق المتردد والغرب الذي لا يحسن ترك مساحة استقلالية لأصدقائه وحلفائه من دون ان يطلب مقابلا لذلك.تتطلع مصر أيضا لممارسة سياسة التوازن في علاقاتها في منطقة الشرق الأوسط من خلال الحوار مع إيران، لكن لا تخلو هذه التطلعات من استحياء. هذا الشعور نابع في الاساس من خصوصية اللحظة التاريخية التي يعتقد الإيرانيون انها فرصة لن تتكرر من أجل أكبر قدر من توسيع النفوذ في المنطقة، بعدما كانت تعاني الحصار على مدار ثلاثة عقود متتالية. لم تعد إيران تلك الدولة المارقة التي كانت تعيش في عزلة دولية خانقة. بعد الاتفاق النووي مع القوى الكبرى صارت لاعبا مقبولا، ولو بحذر، على الساحة الدولية. في إيران ينظرون إلى مصر بعين مختلفة عن باقي الدول العربية. يعتقد الإيرانيون ان مصر وإيران هما جناحا العالم الإسلامي بشقيه السني والشيعي، فضلا عن شعبين كبيرين وحضارتين ضاربتين في عمق التاريخ.حان الوقت الان للحديث مع إيران. قبل ذلك لم يكن مقبولا فتح حوار مع نظام متطرف يسعى لامتلاك قنبلة نووية تمثل، بجانب القنبلة الاسرائيلية، تهديدا للمنطقة بأثرها.حُرمت مصر أيضا في ذلك الوقت من حقها في اقامة علاقات طبيعية مع دولة كان العالم الغربي ينظر إليها باعتبارها أحد أجنحة «محور الشر». بكلام أكثر وضوحا، لم يكن مسموحا لمصر ولا لغيرها من القوى الأساسية في المنطقة ان تقيم علاقات مع إيران، اللهم إن كانت عبر قناة اتصال ضيقة تمر عبر عُمان.الآن تغير الوضع كثيرا. صارت إيران قادرة على التفاوض مع دول مجلس الامن الكبرى والتوقيع معها على اتفاقية من المرجح ان تغير شكل المنطقة في المستقبل القريب.تحاول مصر أيضا، على الجانب الآخر، استعادة استقلالها والتموضع في الوسط بين كل القوى الكبرى في المنطقة.هذا التطلع المصري قد يكون هو المسوغ للعب دور الحمائم ضمن التحالف العربي الذي يسيطر عليه الصقور. حينما تتحدث إلى السعوديين عن ان يحاول احدهم اجراء حوار ما مع إيران تشعر بعصبية ظاهرة ورفض حاسم. تدرك مصر ذلك وتستطيع ان تتفهمه. هذا التفهم ينطلق من ممارسات إيران العدائية تجاه دول الخليج العربية منذ صعود الخميني إلى السلطة بعد الثورة الاسلامية في عام 1979. منذ ذلك الوقت، سعت إيران دائما إلى تصدير ثورتها إلى دول الخليج، ودائما ما اكتست هذه المحاولات بصيغ طائفية.يرى حلفاء مصر في الخليج أيضا انه بات من الضروري ان يفهم الإيرانيون ان التدخل في شئون الدول العربية بات أمرا مرفوضا. وكانت «عاصفة الحزم» في اليمن التي تلعب مصر فيها دورا فعالا أولى لبنات استيراتيجية خليجية جديدة تعكس تشددا في مواقف الحكام الشباب في السعودية ودول خليجية أخرى. في وسط هذه الاجواء، يظهر الطريق ممهدا أمام مصر للعب دور الوسيط. ليس ذلك الوسيط الذي يتصرف بعقلية طرف محايد جاء ليعلم أطراف الصراع كيفية ادارته. ينبغي ان تدرك مصر ان دورها بات الان اكثر حساسية من اي وقت مضى. بمعنى آخر، يجب على مصر ان تكون داخل التحالف العربي ذلك الطرف الذي يفضل لغة الكلام على لغة السلاح. حاولت سلطنة عمان ان تكون هذا اللاعب الهادئ. في الحقيقة هناك اعجاب داخل بعض الدوائر في مصر بهذا الدور، لكن يظل اعجابا فقط لا أكثر. تعلم دول المنطقة ومن بينها مصر ان عمان لا تملك مقومات تمكنها من الرقص بندية مع الاشقياء في طهران التي تتطلع طوال الوقت لما يجري وما سيجري في القاهرة.يشبه هذا الدور الذي ينبغي على مصر الاضطلاع به كإحدي القوى المؤثرة في المنطقة ذلك الدور الذي طالما مارسته فرنسا في السابق. فخلال الغزو الامريكي لأفغانستان كان الفرنسيون هم اللجام الذي يحاول كبح جماح الأمريكيين في «تشويحهم السياسي والعسكري» بعد احداث 11 سبتمبر كما قال الرئيس الفرنسي الاسبق فرانسوا ميتران للاستاذ هيكل حينما كانا يتحدثان عن تصرف باريس ازاء الحرب الاهلية في لبنان.في حرب العراق أيضا لعبت فرنسا دور الوسيط والمفاوض حتى قبل الغزو بأيام قليلة. تكرر الدور الذي يبدو ان الفرنسيين يجيدونه تماما في المفاوضات النووية مع إيران بعد ذلك بعشرة أعوام. هذه المرة، كانت باريس هي الصقر بينما كل من حولها كانوا حمائم. اللافت في فرنسا انها لم تقرر يوما الخروج عن التحالف الوثيق مع ألمانيا وبريطانيا والولاياتالمتحدة. رغم محاولاتها المستميتة دفع واشنطن لاعادة النظر في الحربين اللتين غيرتا لاحقا شكل المنطقة، كانت طائراتها أول من قصف كابول وبغداد حينما حانت اللحظة التي لا ينفع فيها التردد. فعلت باريس نفس الشيء مع القذافي أيضا رغم العلاقات الوثيقة التي كانت تجمعه بنيكولا ساركوزي الذي كان لايزال قابعا في الإليزيه وقتها. قبل كل ذلك ينبغي على مصر ان تقول كلاما واضحا وتحسن شرح سياستها لحلفائها في الخليج. لن يكون سهلا الحديث الان عن حوار مع ايران في ظل العصبية التي تحكم تصرفات القوى الإقليمية في المنطقة. لا ينبغي ان يفهم حلفاؤنا انه حديث يرتقي إلى ان يكون حوارا او تفاوضا أو سعيا لاستعادة العلاقات. هو في النهاية محاولة لرسم إطار لمعادلة القوة والنفوذ بين معسكرين واضحي المعالم: إيران وأذرعها في المنطقة من جانب، ومن جانب اخر تحالف عربي في القلب منه مصر والسعودية. لن تكون سياسة مصر الاقليمية تجاه إيران من جهة وحلفائها الخليجيين من جهة أخرى مطابقة لتلك التي يتبناها الرئيس السيسي للوقوف في وسط الطريق بين الولاياتالمتحدة وروسيا، فمصر لا تتصيد الفرص لكي تستبدل حلفاءها في لحظات الضوضاء التي يقل فيها من يبقى ثابتا على مواقفه. باحث فى الشئون السياسية لمزيد من مقالات أحمد أبو دوح