العنوان الوارد أعلى هذا المقال يعبّر ببساطة عن الدرجة التى حصل عليها طلاب جامعيون بناء على قرار إدارى صادر عن إحدى الجامعات (لعريقة) فى مصر. يحدث هذا فى وقت أصبحت فيه معاييرنا التعليمية تحتاج إلى ثورة تزيح أركان نظام تعليمى مترهلا وفاشلا يعيد إنتاج أزماته، وإخفاقاته، ووزرائه (!) . أصلُ الحكاية أن جامعةً عريقة أصدرت لائحةً لتطوير ما يُسمى بقواعد الرأفة، فأسفرت هذه اللائحة ( البليدة ) عن منح درجات الرأفة ليس فقط إلى الطلاب الذين يحتاجون لبضع درجات للنجاح فى مادة أو مادتين ولكن إلى جميع الطلاب بلا تفرقة. ترتّب على هذا نتائج تثير السخرية والضحك ، مثل أن يحصل طلاب كانت درجتهم الأصلية 18 من 20 على 21 ومن كانت درجتهم الأصلية 19 من 20 أصبحت درجتهم 22 من 20 (!!) وهكذا. المبرر (الظاهر) لهذا القرار الأكاديمى هو تحقيق المساواة بين الطلاب بحيث لا يتميز الطلاب الراسبون عن الطلاب الناجحين والمتفوقين. لكن الواقع أن المبررات (الظاهرة) تخفى أحيانا أهدافا (باطنة) يدركها العارفون بدهاليز صنع القرار الأكاديمي. نظام الرأفة فى تقييم الطلاب هو عموماً نظام مُستهجن ولا يخلو من معانٍ سلبية، لكنه مقبول على مضض بشرط استناده إلى ضوابط وشروط معينة كان يتم احترامها فيما مضي. ولأن التدهور الذى أصاب التعليم المصرى أصبح تدهوراً شاملا فإن نظام الرأفة تدهور بدوره حتى وصل إلى هذا المستوى من العبثية واللا معقول. خلال عقود طويلة من الزمن كانت تطبق قواعد الرأفة بحيث يستفيد الطلاب من بضع درجات إضافية لتغيير حالتهم من راسب إلى ناجح، لكن كانت قواعد الرأفة فيما مضى (أربع درجات غالباً فى كلية مثل كلية الحقوق) تخضع لضوابط معينة بحكم طابعها الاستثنائي. لكن شيئاً فشيئاً بدأ التوسع فى هذا الاستثناء بزيادة عدد درجات الرأفة ثم التحلل من الشروط والضوابط التى كان يجب توافرها بحكم كونها استثناء. وكل استثناء لا يجوز التوسع فيه أو القياس عليه، وإلا فإنه لا يصبح استثناء. هكذا تواصل الانحراف فى تطبيق نظام الرأفة والتوسع فيه حتى أصبح مثيراً للتساؤلات. فباسم أى منطق أو مبرر يحصل طالب على 22 أو 23 من 20 لأنه قد حصل على نفس درجات الرأفة التى حصل عليها الطالب الذى كان راسباً بفارق طفيف من الدرجات. المبرر ( الظاهري) هو تحقيق المساواة بين جميع الطلاب وكأن المساواة قد تم اكتشافها فجأة منذ عدة سنوات ولم يفطن إليها جيل بل أجيال من الأساتذة الكبار الذين شيّدوا أسس التعليم الجامعى فى مصر قبل أن تتضعضع وينخر فيها السوس. الحديث عن المساواه ليس سوى المبرر ( الظاهري) لأن المساواة التى تجعل طالباً يحصل فى مقرر جامعى على أكثر من 100% هى مساواة خرقاء ومستهترة (وكوميدية) تسيء إلى المعنى السامى للمساواة . وإذا كان ذلك قد حدث فى سنوات الفوضى التالية على 2011 فمن الواجب أن يتوقف الآن . الاستمرار (والاستمراء ) فى منح طلاب ناجحين أصلاً أكثر من 100% بأساليب افتراضية ( وأكروبات ) لائحية هو بالتأكيد أمر لا يليق بالحد الأدنى من أى معايير جامعية للتقييم، وهو ما يفتح الباب واسعاً لتشجيع عموم الطلاب على اللجوء إلى القضاء للحصول على هذه ( المنح ) السخية التى تمنحها بعض الجامعات لبعض الطلاب فيلجأ الباقون إلى القضاء. وحتى لو حكم القضاء لأسباب قانونية ( شكلية ) بتعميم هذه (المنح) فهذا شأن القضاء ، لكنه لا يعفى المؤسسة الجامعية ولا أساتذتها من المسئولية، لأننا نحن الذين خلقنا المشكلة بأيدينا (لغاية ما) . فلا نلومنّ القضاء بل نلوم أنفسنا. أخطر ما فى إنجاح طلاب جامعيين بأكثر من 100% بفعل هذا الأكروبات اللائحة التى يتم إلصاقها تجاوزاً وتوسعاً واستخفافاً بما يُسمى قواعد الرأفة هو أن ذلك يعصف بالمعايير الجامعية للتقييم التى سهر على احترامها أساتذة أجلاء على مدى زمن طويل ، ويضرب فى مقتل بفكرة الجودة التعليمية التى أنفقنا عليها أموالاً طائلة ثم ها نحن نكتشف أن من نتائجها حصول طلاب على 22 من 20 . فهل بهذا يرتفع مستوى جودة التعليم ونرتقى بمستوى طلابنا إلى المعايير الدولية التى تأخذ بها النظم التعليمية المحترمة فى البلاد المتقدمة ؟ ألا يفسر لنا هذا أحد أسباب خروج جامعاتنا من قائمة أفضل الجامعات فى العالم ؟ ثم أى سمعة نصنعها لتعليمنا بل أى سمعة نصنعها لمصر الجديدة إذا كانت هذه هى معاييرنا لتقييم الطلاب. على المستوى الشخصى أنا واحدٌ ممن يعتقدون أن التساهل والتدنى فى معاييرنا التعليمية هو احد أسباب انخفاض مستوى طلابنا وعدم توظيف قدراتهم وطاقاتهم على الوجه الأكمل بدليل أنهم ينجحون ويتفوقون فى دراستهم فى الجامعات الأجنبية لأن النظم التعليمية الأجنبية تحفُّز قدراتهم وتستخرج طاقاتهم. السؤال الأخير من وما السبب فيما وصلنا إليه ؟ هذا سؤال تطول إجابته . هل يكون السبب هو اللوائح والقرارات ؟ هنا يصبح السؤال من أصدر هذه اللوائح والقرارات فى جامعتنا الساحلية العريقة ؟ وبصرف النظر عمن أصدرها هل هى لوائح وقرارات مقدسة ؟ ولكى لا نفتّش فى ضمائر البشر فإن السؤال الأجدى هو لماذا لا يتم على الفور إلغاؤها أو تعديلها ؟ ------------ قال أرسطو «إفلاطون عزيزٌ على .. لكن الحقيقةَ أعزُّ منه ». لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم