يشهد المجتمع المصرى خلال الآونة الأخيرة جدالا عنيفا حول مدى استقلالية البنك المركزى ودوره فى صنع السياسة النقدية، وذلك عقب التصريحات التى ادلى بها بعض المسئولين حول سياسة سعر الصرف المستقبلية، وهو ما اثار حفيظة البنك المركزى باعتباره تدخلا من الحكومة فى شئون السياسة النقدية التى تعد الشغل الشاغل له، ووظيفته الأساسية فى ضوء الدستور والقانون. بينما وعلى الجانب الآخر ترى الحكومة انه من الضرورى التنسيق والتعاون بين الطرفين لإنجاز المهام التنموية المنشودة للبلاد. وهنا يشير الفكر الاقتصادى إلى أن مصداقية السياسة النقدية وبالتالى قدرتها على تحقيق استقرار طويل الأجل للأسعار، مع حد أدنى من التكاليف الاقتصادية، يتطلب بالأساس أن تكون صياغة السياسة النقدية بين أيدى مسئولين بعيدين تماما عن السياسة،بحيث يكون فى استطاعتهم النظر إلى المدى البعيد.خاصة أن سياسة سعر الصرف الحر تحتاج إلى محور ارتكاز أسمى غالبا مايتمثل فى معدل التضخم المستهدف الذى يعد البديل الأفضل فى الحالة المصرية. ويتلخص هذا النظام فى تقدير معدل متوقع للتضخم فى ضوء التطورات والتغييرات خلال الاعوام السابقة والمستجدات المحتملة على الساحة المحلية بالإضافة الى الإمكانات المتاحة لدى السلطةالنقدية وحدود أدوات السياسة المتبعة. وهكذا تستطيع السلطة النقدية عبر العديد من الأدوات التأثير فى النشاط الاقتصادى لتحقيق معدل تضخم معين. ونظرا لان هذا الهدف لا يتحقق إلا بعد فترة زمنية تستغرق عاما على الأقل، وذلك بسبب طبيعة الاقتصاد ومرونة الأسعار وسرعة تداول السلع. فإن السلطة النقدية عادة ما تعتمد على أهداف وسيطة ترتبط ارتباطا وثيقا بهذا الهدف للاطمئنان على السير فى الطريق الصحيح.. كل هذه الأمور تتطلب بالضرورة تفعيل دور البنك المركزى لكى يدير تحركات أسعار الصرف وفقا للأهداف الموضوعة للسياسة الاقتصادية للدولة.بحيث يصبح الهدف الأساسى للسياسة النقدية هو الحفاظ على استقرار معقول للأسعار. نظرا لأن أفضل إسهام للسياسة النقدية هو مساندة أفضل مسارات النمو قابلية للاستمرار بالنسبة للإنتاج والعمالة وكذلك الحد من التقلبات الدورية حول مسارات النمو فى ظل انفتاح الاقتصاد، وما ينطوى عليه من تدفقات حرة لرءوس الأموال ومرونة أسعار الصرف، وهنايأتى دور البنك المركزى الذى عليه أن يدير تحركات سعر الصرف بما يضمن تنظيم السوق والسيطرة عليها مما يمكن سعر الصرف من أداء الوظائف المنوط بها، وهذا مالم يحدث فى معظم الأزمات التى جرت أخيرا، إذ نلحظ أنه غالبا ما يتدخل متأخرا كثيرا عن التوقيت السليم. وبالتالى يكون لتدخله أثرا عكس أى يؤدى الى تفاقم الأزمة وليس العكس. فالعبرة ليست فقط بالقرار السليم ولكن الأهم هو التوقيت. خاصة فى سوق تلعب فيه العوامل النفسية دورا كبيرا مثل سوق الصرف الأجنبي. وهكذا اذا كان تحقيق الاستقرار الاقتصادى يترجم فى النهاية إلى هدف يرتبط بالتغيير فى الأسعار فان الآراء تتباين حول ما إذا كان من الواجب على السياسة النقدية تبنى فكرة الاستقرار الكامل للأسعار أو الالتزام بمعدل تضخم تعتبره معقولا من وجهة نظرها. وهذا هو لب الحديث عن استقلالية البنك المركزى . ويرى ستانلى فيشر ان الحجج المؤيدة لاستقلالية البنك المركزى هى حجج من يبحثون عن افضل الحلول من الدرجة الثانية . ولكن فى عالم يبحث عن افضل الحلول فانه يجب أن تكون السياستان النقدية والمالية متسقتين تماما. فالسياسة المالية ترتبط بالسياسة النقدية تماما وذلك من خلال الدور الذى تقوم به السلطات النقدية فى تمويل عجز الموازنة العامة وعلى هذا فان العلاقة بين السياستين تنعكس فى النهاية على صافى الاقتراض الحكومى من الجهاز المصرفي. وهو ما يؤثر بدوره على السيولة المحلية والقاعدة النقدية. وحتى الآن لم تستطع الخبرة التاريخية والدلائل التطبيقية حسم مسألة الاستقلالية اذ بينما نلاحظ ان هناك العديد من البلدان ذات البنوك المركزية المستقلة تحقق معدلات تضخم منخفضة للغاية دون ان يؤثر ذلك على النمو. فإن هناك العديد من الدول ذات التضخم المنخفض، ولكن دون بنك مركزى مستقل. الأمر الذى يدفعنا للاعتقاد بان هذه المسألة تظل رهنا بمدى وطبيعة التطور الاقتصادى بالبلاد. من هذا المنطلق يمكننا مناقشة هذه المسألة فى ضوء الواقع المصرى المعيشي، وهنا يصبح التساؤل هو هل ينبغى أن يكون البنك المركزى مستقلا عن السلطة الحكومية ام لا؟ واذا كانت الاجابة بنعم فماهى حدود هذه الاستقلالية والتى تجعل البنك المركزى قادرا على السيطرة بعناية على السياسة النقدية بالبلاد؟ وماهى السلطات التى يجب أن تمنح له والمسئوليات التى يجب أن يضطلع بها؟ توجد عدة جوانب لمفهوم الاستقلالية سياسيا وقانونيا ووظيفيا. وهى أمور يجب دراستها وحلها بالطريقة التى تجعله يمارس سلطاته دون تدخل من أحد وهذه المسألة تتطلب ألا يطلب ولا يتلقى تعليمات من الحكومة أو أى مؤسسات أخري. وثانيا: أن يكون البنك المركزى مستقلا وظيفيا بمعنى أن توضع تحت تصرفه الأدوات اللازمة لممارسة السياسة النقدية بطريقة فعالة. وثالثا: يجب أن يكون صانعو القرار فى البنك المركزى مستقلين تماما. وهذه المشكلات الثلاث توضح لنا مدى التشابك والتعقيد فى هذه العملية لأن أى بنك مركزى لايمكن أن يكون مستقلا عن الحكومة بصورة كاملة. إذ توجدالعديد من قنوات التأثير (رسمية وغير رسمية) يمكن للحكومة التأثير من خلالها على السياسة النقدية ياتى على رأسها السياسة المالية وخاصة الضريبية. والمسألة الثانية ترتبط بالعلاقة بين البنك المركزى والوزارات المعنية الأخري، سواء نتيجة للوضع التشريعى أو من حيث الممارسة. إذ ان تبعية السلطة النقدية للسلطة المالية، على سبيل المثال ، تؤدى الى تسخير الاولى كاداة لتمويل عجز الموازنة الحكومية او التوسع المالي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من المعايير للحكم على مدى استقلالية البنك المركزى من الناحية القانونية من حيث المهام الرسمية للبنك المركزى والجهة التى تتولى مساءلة ومحاسبة المسئولين وتعيين المحافظ وأعضاء مجلس الإدارة ومدة عملهم، وهى المسألة التى حسمها الدستور المصرى تماما وأعطى الاستقلالية المطلقة للبنك المركزي. ثانيا من الناحية الاقتصادية القدرة على اختيار أدوات السياسة النقدية وحدود تمويل الحكومة وأوضاع الدين العام الحكومى وسعر الخصم ونسبة الاحتياطى القانوني. وعلى الرغم من إن الظروف الحالية فى المجتمع المصرى تحتاج إلى الفصل التام بين السياسة النقدية والمالية وبالتالى تدعيم سلطات البنك المركزى وضمان استقلاليته عن السلطات الأخرى فى الدولة. ووضع الآليات والوسائل التى تحقق الشفافية الكاملة فى أعماله،فإن ذلك لابد ان يتم فى اطار من التنسيق مع الحكومة، وهو ماحرص عليه قانون البنك المركزى فى انشاءالمجلس التنسيقى لهذا الغرض، وبما يضمن تنسيق السياسات الكلية للاقتصاد القومى وفى إطار رؤية متكاملة للسياسة النقدية بالتنسيق مع السياسة المالية وهو الأمر الذى من شأنه تحقيق الاستقرار المنشود. إذ إن طبيعة تحديات التنمية والتشغيل التى تواجه الاقتصاد القومى فى المرحلة الحالية تتطلب علاقة بين كل من الحكومة والبنك المركزى تقوم على أساس من الشراكة فى تحديد أهداف السياسات، وكلها أمور تتطلب سرعة تفعيل المجلس التنسيقى وإعادة النظر فى تشكيلته الحالية لجعله أكثر قدرة على تحقيق هذا الهدف الضرورى والحيوى للاقتصاد القومي. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي