فرحت جموع الشعب المصرى وهللت عند أول بادرة قدمتها الدولة لمواجهة الفساد، وتوالت صيحات التأييد والمطالبة بالمضى قدما فى تنظيف البلد. سبق لهذه الجموع أن خرجت فى يناير 2011 لتسقط نظاما مثل الفساد أحد أسلحته الرئيسية لتشكيل طبقة منتفعة وموالية وداعمة، وليمثل التحالف بين هذه الطبقة وبين النظام الحاكم السبيل الرئيسى لنهب ثروات الشعب وإفقار أبنائه. مع الفرحة ببوادر المواجهة تصاعدت الآمال فى استعادة ثروات الشعب المنهوبة وتعبئة كل القوى والإمكانات للتنمية، وإحداث نقلة حقيقية فى مستوى معيشة القاعدة العريضة من الجماهير التى طال انتظارها للحياة الآدمية الكريمة. الدولة لا تنقصها الأسلحة اللازمة لمواجهة الفساد. لا تنقصنا القوانين ولا الأجهزة الرقابية. لدينا قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وقانون الكسب غير المشروع وقانون مكافحة غسل الأموال، ولدينا أكثر من سبعة أجهزة رقابية مهمتها كشف وتعقب الفساد وحماية أموال وثروات الشعب. التقرير الذى أصدرته الأممالمتحدة فى يونيو الماضى لمتابعة تنفيذ الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد والتى صدقت عليها مصر فى عام 2004، يؤكد أن لدينا البنية التشريعية والمؤسسية اللازمة لتفعيل تلك الاتفاقية. قضيتنا فى حقيقة الأمر هى تحويل منظومة مكافحة الفساد وملاحقته من منظومة كرتونية تمثل تستيف ورق إلى منظومة حقيقية فاعلة. المشكلة أن الدولة تعطينا رسائل متعارضة فى هذا الشأن. فبينما تؤكد أنه لاتهاون مع مفسد ولا أحد فوق القانون، نجدها تحرص على أن تجعل هيئة الرقابة الإدارية تابعة لرئيس مجلس الوزراء. وحيث إن هيئة الرقابة الإدارية أصبحت الآن تمثل المظلة التى تضم تحتها كافة الأجهزة الرقابية المعنية بمكافحة الفساد، فإن تبعية تلك المنظومة بكاملها للسلطة التنفيذية تعنى عدم استقلالية الأجهزة الرقابية، كما تعنى أن قرار تحريك قضية أو أخرى، ضد مسئول أو آخر هى فى نهاية الأمر رهن بقرار رئيس مجلس الوزراء! وطالما أن الدولة تفتح الباب للانتقائية فى مواجهة للفساد فإن لنا أن نتساءل عن السبب فى عدم فتح ملفات الفساد التى أعلن عنها الجهاز المركزى للمحاسبات مرارا وتكرارا. الدولة تعطينا رسائل متعارضة بإصرارها على استمرار قانون تحصين الفساد، الذى صدر فى أبريل 2014، والذى ينتزع من المواطنين الحق فى الطعن على أية عقود تبرمها الحكومة أو مؤسساتها المختلفة، ويجعل ذلك الحق حكرا لطرفى التعاقد أى الحكومة والشخص أو الجهة التى تعاقدت معها. بل إنه وفقا للمادة الثانية من ذلك القانون يتعين أن تقضى المحكمة من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعاوى أو الطعون المتعلقة بالعقود التى تكون الدولة ومؤسساتها المختلفة طرفا فيها. قانون تحصين الفساد لا يزال قائما ويسرى على كل التعاقدات التى تبرمها الدولة حاليا مع المستثمرين المحليين والأجانب، وعلى كل عقود المشاركة فى مشروعات الخدمات والمرافق التى يجرى طرحها على القطاع الخاص. كيف يستقيم إعلان الحرب على الفساد مع قيام الدولة فى مارس 2015 بتعديل قانون الإجراءات الجنائية كى تسمح المادة 18 مكرر (ب) بجواز التصالح مع المستثمرين ورجال الأعمال فى جرائم الإضرار بالمال العام، سواء من خلال التأجيل العمدى لتنفيذ عقود مقاولات أو نقل أو توريد أو أشغال عامة مع أجهزة الدولة، أو من خلال الغش فى تنفيذ العقود ؟ التعديل القانونى يسمح بالتصالح حتى بعد صدور حكم بات من القضاء، وحتى لو كان المحكوم عليه محبوسا نفاذا لهذا الحكم، لينتهى الأمر بوقف تنفيذ العقوبة نهائيا! هل يكفى التصالح واسترداد الأموال التى حصل عليها رجل الأعمال مثلا من غشه فى مواصفات بناء كوبرى أو مدرسة أو توريد أجهزة طبية حتى لو كان ذلك يعنى تعريض حياة المواطنين للخطر؟ إذا كانت الدولة جادة فى محاربة الفساد فلماذا لم تقم حتى الآن بتحريك الدعاوى الجنائية ضد المسئولين السابقين الذين أبرموا عقود بيع شركات القطاع العام، بعد أن صدرت أحكام القضاء النهائية تؤكد فساد تلك العقود، وتقضى ببطلان البيع؟ أطراف تلك العقود الفاسدة من رؤساء وزارات ووزراء ورؤساء شركات قابضة معروفون، وأسماؤهم مثبتة فى أوراق القضايا. والمفروض أن قاعدة البيانات المتوافرة لدى وحدة مكافحة غسل الأموال الموجودة فى مقر البنك المركزى المصرى تتضمن تفاصيل تحركات حسابات هؤلاء المسئولين وتحويلاتهم وقروضهم والاعتمادات المستندية لوارداتهم. والمفروض أيضا أن لدينا اتفاقيات لتبادل المعلومات بين وحدات التحريات المالية مع 16 دولة عربية وأجنبية. ماذا يقعد الحكومة إذن عن ملاحقة أولئك الفاسدين، واستعادة أموالنا المنهوبة؟. الواضح أن مواجهة الفساد وملاحقته يجب أن تكون معركة الشعب التى يخوضها بنفسه لتفعيل القوانين والتشريعات والأجهزة الرقابية القائمة بالفعل، لمحاصرة الفساد وملاحقة الفاسدين واسترداد أموال الشعب المنهوبة. وإذا كانت نقطة البدء فى مكافحة الفساد تتمثل فى كشف ممارساته وفضحها أمام الرأى العام، ومواجهة الحكومة بها، فإن المعركة الحقيقية تتسع لتشمل اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالقضاء على تضارب المصالح للمسئولين، وإعمال مبادئ الشفافية فى شأن كافة التعاقدات التى تبرمها الدولة ومؤسساتها المختلفة، وإعمال المساءلة للموظفين العموميين على كافة مستوياتهم، بما فى ذلك تفعيل قانون المحاكمة السياسية للوزراء. فلتكن انتخابات مجلس النواب القادم أولى مراحل المعركة الحقيقية التى يجب أن يخوضها الشعب المصرى ضد الفساد، بالحيلولة دون نفاذ قيادات وحلفاء النظام الذى ثرنا عليه والذى يصر على إعلان العودة الصريحة لتولى زمام الأمور. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى