سمعنا عن القوى الثورية والقوى المحافظة. القوى التقدمية والقوى الرجعية. الإسلامية والليبرالية. القوى المدنية والقوى الدينية. القوى الوطنية والقوى القومية. قوى الدولة وقوى المجتمع المدني. لكن كل هذه القوى ربما تبدو على امتداد تاريخ سياسي طويل مجرد جمل اعتراضية أو هوامش ظن بعضنا أن الحظ سيساندها وأن التاريخ سينتصر لها وأن المستقبل سيكون لواحدة منها. اعتقدنا أن أحدها ستكون هي القوى المؤثرة والموجهة والحاسمة. لكن الواقع أتى مرارا ليثبت أن أيا منها لم يكن مؤثرا كما ظننا ولا موجها كما خال لنا. فلا القوى التقدمية تقدمت بنا ولا القوى القومية حققت الوحدة ولا القوى الإسلامية أنجزت وعد الدولة الطاهرة ولا القوى الليبرالية انتصرت للحرية. القوى الوحيدة التي انتصرت وما زالت تواصل الانتصار في منطقتنا عموما وباختصار شديد هي «قوى الاستنطاع». نعم قوى الاستنطاع. فمنذ قرون وهي الأكبر حجماً والأقوى أثرا. قوى الاستنطاع تجيد فنون التنطع وتتقنها. تتمتع بدرجة لا مبالاة هائلة. ومع أن التنطع لغةً يرادف المط والتشدق في الكلام، إلا أن هذه القوى لا تتكلم كثيرا وأحيانا لا تتكلم بالمرة. ولو تكلمت فكلامها ليس له معنى. كلام لا يضيف ولا يوضح شيئاً ولا يزيد عن تحصيل حاصل. قوى الاستنطاع ليست مرادفة لقوى الجمود والحفاظ على الوضع الراهن أو القوى الرجعية. فتلك الأخيرة تحاول منع التغيير. أما قوى الاستنطاع فلا تبالي إن بقى الحال على ما هو عليه أو تغير. وهي أيضا لا تضم حزب الكنبة أو الكتلة الجماهيرية الكبيرة الصامتة. فتلك الكتلة وإن كانت ساكتة لا تشارك إلا أنها تتابع وتعرف وتختزن تألمها من الشأن العام لنفسها. قوى الاستنطاع تأتي من أي لون سياسي، وعادةً ما تشمل كل أطياف اللون السياسي. فيها تقدميون ورجعيون. إسلاميون وعلمانيون. ليبراليون وقوميون. رسميون وغير رسميين. كما تضم ممثلين عن جميع المهن والوظائف. من صحافيين وإعلاميين وأساتذة جامعات وبيروقراطيين ورجال أعمال وأمن وقضاة وغيرهم من مختلف الحرف والتخصصات. ومع أن النطع في اللغة كلمة مذكرة إلا أن قوى الاستنطاع تضم رجالاً ونساء. تنتشر لتشمل بعض سكان الريف والحضر والبادية. هي قوى واسعة جدا. جلدها سميك للغاية. لا تبالي ولا تكترث أو بتعبير عامي بسيط «معندهاش دم». ترى المصائب ولا تتحرك. لا تهزها صرخات الجماهير ولا حتى ثوراتهم. باردة المشاعر، سلبية وفاترة إزاء المصائب. يُنادى عليها فتتطارش. تُعرض عليها المشكلات فتتعامى. يُطلب منها اتخاذ موقف فتتخارس. قوى الاستنطاع هي العدو الأول والأخطر لقوى الإنجاز وللناس العاملين بذمة وضمير. بيننا كثيرون يبنون ويحاولون أن يغيروا. لكن قوى الاستنطاع ما زالت أكبر. قوى الاستنطاع هي القاسم المشترك بين مختلف الفرقاء السياسيين ولا تتركز في تيار بعينه. بعض الإسلاميين مثلاً مهروا في التنطع. يلح العالم عليهم أن يراجعوا خطابهم وأن يجددوا مشتملاته لكنهم إلى الآن أذن من طين وأخرى من عجين. باردون جدا. ولا تقل عنهم برودة واستنطاعا وجوه ليبرالية تصر على أفكار تبين مرارا أنها لا تناسب مجتمعاتهم. استنطعوا فاستنطع معهم خصومهم ليرد كل منهم للآخر الاستنطاع الصاع صاعين. في كل التيارات الفكرية والسياسية وفي مختلف المفاصل الإدارية الحيوية يوجد مستنطعون لا يبالون بتعديل مواقفهم أو نقد أفكارهم ولا يهتمون بالمراجعات الذاتية العميقة حتى لو وقعت كوارث. الأسوأ من قوى الاستنطاع الفكري والسياسي قوى الاستنطاع الإداري. تلك القوى التي تتحمل مسئولية تشغيل الدولة. فهؤلاء هم الوجه الظاهر أمام المعذبين في الأرض أو من يعرفون بالمواطنين. يتمنى المواطن أن يسمع هؤلاء نداءه لكي يسهلوا وصول الخدمات إليه أو تخليص المعاملات التي يحتاج إليها. لكن قوى الاستنطاع تبقى مهما أنفق من أجل تطوير كفاءة الجهاز الإداري ممسكة بتلابيب دولاب العمل ومتمسكة بطريقتها البليدة في الأداء. لا ترحم ولا تترك رحمة الله تصل إلى الناس. أما الأوسع نطاقاُ فهي قوى الاستنطاع المجتمعي، وتضم كل من ليست لهم علاقة بعالم الافكار أو الإدارة أو صنع القرار. هم جموع العوام الذين فقدوا الإحساس بالخطأ واعتادوا التعايش مع مظاهر القبح والدمامة والقذارة وكأنها أوضاع طبيعية. استنطاع على سبيل المثال أمام ظواهر مشينة كالتحرش بالإناث أو الثأر والرشوة وإلقاء النفايات في عرض الطريق ومخالفة قواعد المرور. ممارسات منحرفة يجب أن يعاقب عليها القانون لكن قوى الاستنطاع لا تحرك ساكنا إزاءها بل تمارسها علانيةً وتكررها مرارا إلى أن حولتها إلى طريقة حياة. بات الاستنطاع المجتمعي أحيانا وكأنه اختيار أمة وإرادة شعب. إن قوى الاستنطاع ليست قليلة. إنها تجمعات مهولة من التنابلة عديمي الإحساس بالمشكلات العامة والمسئوليات العامة والقضايا العامة. حتى لو عرفوا بها، لا يقدرونها حق تقديرها. وهي موزعة ومنتشرة في مؤسسات الدولة وصفوف المجتمع. تمارس الاستنطاع الثقافي والسياسي والاقتصادي والديني والفني والرياضي بل حتى الاستنطاع الدولي عندما لا يهمها تأثير ما تفعله على صورة الوطن في الخارج. تسمع ولا تهتم، تعلم بالشيء وتتجاهله، تمط وتسوف. قوى تلتهم بعضها البعض. فالأنطاع متى ظهروا في موقع إلا وتليهم جحافل من الأنطاع في مواقع أخرى. بات الاستنطاع ذهنية وأسلوب تفكير لا يبالى بحل المشكلات المركزية أو يهتم بتلبية الحاجات الإنسانية الأساسية. قوى الاستنطاع قد تكون من حيث الشكل أقرب إلى القوى الرجعية السكونية الجامدة. لكنها تختلف عنها فيما يخص سبب البرود حيال التجديد والتغيير والتطوير. القوى الرجعية تملك فكرا وإستراتيجية ورؤية تسعى لتحقيقها. أما قوى الاستنطاع فيحركها عقل اعتاد على اللامبالاة وذهنية ألفت الاستهزاء بأي كلام. قوى الاستنطاع خطر عظيم لأنه كلما سمح لها بالتمكن قلت المروءة وتراجعت الشهامة وتحجرت المشاعر بين الناس حتى إزاء صور ومشاهد يفترض أن تحرك الحجر. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات