أشرنا فى الأسبوع الماضى إلى أن الجهاز الإدارى للدولة يعتبر إحدى الأدوات الأساسية لتحقيق الأهداف التنموية للمجتمع، ومن ثم فإن أى جهود تبذل لتطوير هذا الجهاز تنعكس بالإيجاب مباشرة على أوضاع المواطنين والمجتمع ككل. وكذا يسهم فى تفعيل حرية الإرادة السياسية للمجتمع واحترامها ونفاذ سلطة القانون وتحقيق الشفافية وما يستتبعها من مكاشفة ومحاسبة وتقويم وتصحيح مسار. وقد خلصت معظم الدراسات التى أجريت حول تطور المجتمع المصرى عبر العصور المختلفة إلى أن السمة الأساسية له هى المركزية الشديدة والهيمنة على مجمل المجتمع. وذلك رغم تغيير وظيفة الحكومة عبر العديد من المراحل التاريخية. وقد شهدت البيئة المحلية والدولية العديد من التغييرات والتطورات التى أصبحت تتطلب إعادة النظر فى الهيكل الإدارى للدولةودوره، خاصة مع تغير دور الدولة وعلاقتها بالمجتمع وظهور لاعبين جدد يشاركون فى صنع السياسات العامة بالإضافة إلى ثورة المعلومات والاتصالات واشتداد المنافسة فى تقديم الخدمة وجودتها. وتزداد أهمية هذه المسالة مع الأخذ بنظام السوق وما ترتب عليه من تغيير فى دور الحكومات التى أصبح عليها عدة أدوارأساسية ورئيسية منها ضمان كفاءة آلية السوق بما يعنيه ذلك من توفير الظروف التى تجعل تفاعل العرض والطلب يتم فى إطارحقيقى مع ضمان التخطيط الاستثمارى السليم عن طريق توفير البيانات والمعلومات الأساسية عن القطاعات الاقتصادية بالمجتمع، وذلك بالشكل الذى يمكن الجميع من إجراء دراسات الجدوى السليمة والصحيحة. وكذلك توفير المناخ الاستثمارى الجيد عن طريق إصلاح التشريعات القانونية والإدارية. ووضع القوانين موضع التنفيذ. وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة فى الإنتاج مع ضمان عدالة التوزيع لثمار النمو. وبمعنى آخر فإنه بقدر ما لا يمكن إهمال آلية السوق وجهاز الثمن، إلا انه لايمكن ان يستمر ذلك دون التدخل الذكى والمنظم من جانب الدولة. انطلاقا من هذه الرؤية تأتى أهمية التحديث المستمر لمؤسسات الدولة كى تتمكن من القيام بدورها فى تحقيق التنمية، وكذلك تحديث الأجهزة الحكومية والخدمية ورفع مستوى أدائها. وجدير بالذكر ان الدولة قد قامت ولعقود طويلة بدور الفاعل الأساسي-والوحيدأحياناً-فى المجتمع. وتوسعت فى التقسيمات الحكومية. وهو ما ادى بدوره الى التوسع فى الهياكل التنظيمية واستحداث العديد من التقسيمات والمستويات الوظيفية دون الحاجة اليها الامر الذى ادى الى تضخمه وتعدد الإجراءات، وبالتالى تدهور جودة الخدمة العامة وعدم رضاء المواطن عن نوعية وأسلوب تقديم هذه الخدمات.وأصبح ينظر الى المجتمع المصرى باعتباره مفرطا فى الأعباء الإدارية. وبمعنى اخر فان الجهاز الإدارى الحكومى بوضعه الحالى يعوق الإنتاج والاستثمار. وكذلك يؤدى الىالعديد من النتائج السلبية منها تدنى مستوى الخدمات العامة وارتفاع تكلفتها، من حيث الوقت المستغرق فى انجازها أو الأعباء المالية الإضافيةيضاف الى ما سبق الاختلالات العديدة فى توزيع الأجور بالجهاز الحكومى ككل، نتيجة لأوضاع قانونية ولا علاقة لها بالإنتاجية. كل هذه الامور وغيرها توضح لنا ان الوضع الراهن لايمكن ان يستمر إلا إذا تعاملنا معه من منظور تنموى عن طريق إجراء تحديث جذرى فى الفلسفة التى تستند إليها نظم الخدمة المدنية حتى يتم تفعيل قدرات وطاقات العنصر البشرى وإعادة تأهيل وتدريب هذه الفئات بما يساعد على الحد من ظاهرة البطالة المقنعة من ناحية ويساعد على رفع كفاءة الأداء فى دولاب العمل الحكومى من ناحية أخرى.وذلك بالعمل علىوضع اطر جديدة ونظم مختلفة تساعد على تطوير العمل وزيادة الأجور والرواتب وايجاد جهاز ادارى كفء وفعال يتسم بالشفافية والعدالة ويخضع للمساءلة، ويعنى برضاء المواطن ويحقق الاهداف التنموية للبلاد، عن طريق تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، واتاحة الخدمات العامة بعدالة وجودة عالية، فالغاية هى خدمة المواطن من هنا جاءت التسمية الجديدة للمشروع المقترح ليصبح «قانون الخدمة المدنية». بدلا من «التسمية الحالية» قانون العاملين المدنيين بالدولة. مع ملاحظة ان قانون الخدمة المدنية ماهو الا حلقة من حلقات برنامج الإصلاح الشامل فى كل المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لتطوير الدولة، ولكى يتمتع المواطنون بثمار الديمقراطية والاقتصاد القائم على آليات السوق بتوفير المؤسسات والآليات المناسبة التى تمكنهم من التعامل السليم مع الأجهزة الحكومية ومسائلتها ومحاسبتها، وكلها أمور تهدف الى خفض التكاليف ورفع الكفاءة الإنتاجية سيما وإنها تؤدى للتخلص من أعباء البيروقراطية الحكومية التى كانت تحد كثيرا من فاعلية هذه المسألة. ومن أهم الانتقادات التى وجهت الى قانون الخدمة المدنية هو كثرة الإحالة فى أحكامه للائحة التنفيذية ويرى البعض ان ذلك عيباً، بينما نرى انه احدى الميزات الأساسية حيث اخذ بالاتجاه الجديد فى السياسة التشريعية والقائم على فكرة القانون المرن بحيث تتمتع التشريعات الثانوية والتنفيذية بقدر كبير من مجالات التنظيم وبما يحقق حالة من تناغم وانسجام القاعدة القانونية مع بيئتها المتغيرة والمتطورة وهو عين ما رمى إليه المشرع بإصدار قانون محدود المواد يضمن الحقوق والواجبات الأساسية مع فتح المجال للقواعد التنظيمية لتحقيق اكبر قدر من الملاءمة مع الواقع العملي.وهذا المنحى التشريعى يفتح مجالاً رحباً فى المستقبل لتحقيق أوضاع موظفى الدولة. ولهذا قام القانون على عدة مبادئ منها إعادة النظر فى الأسس التى تقوم عليها عملية الترقيات بما يرفع من كفاءة الأداء الحكومى، وهنا يرى البعض ان الموظف قد أصبح تحت سيطرة رئيسه المباشر نتيجة لعملية تقويم الأداء، وهذا غير صحيح بل على العكس من ذلك فان نظام تقويم أداء الموظف يشتمل على عناصر للتقويم منها تقويم الموظف لذاته، تقويم الموظف لرئيسه، تقويم المتلقين لخدمات الموظف، تقويم الموظف لزملائه وأقرانه، تقويم الأداء العام للوحدة التى يعمل بها، وتقويم الرئيس المباشر القائم على معايير موضوعية منها السلوك، الالتزام، الجودة، التميز، الابتكار، الإنجاز، القدرة على تحمل المسئولية، وذلك كله وفقاً لنموذج استرشادى يضعه الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة ويصدر به قرار من الوزير المختص.وبالنسبة لشاغلى الوظائف الإدارة العليا والإدارة التنفيذية، يضاف إلى عناصر تقويم الأداء السابقة مجموعة من العناصر تشتمل على القدرة على التخطيط والتنظيم، والقدرة على الإشراف والرقابة والتوجيه، والقدرة على اتخاذ القرار، والنتائج المحققة. اما الحديث عن ان هذا النظام سوف يفتح الباب واسعا امام الرشوة لدى بعض المصالح الإيرادية نتيجة لأن الممول سوف يسهم فى عملية التقييم فهذا غير صحيح على الاطلاق لعدة أسباب ان الوزن النسبى للممول فى هذه العملية محدود/ كما انه يفترض ان جميع الممولين فاسدون وهذا أيضا غير صحيح فالعبرة بعمل الوحدة ككل وليس موظفا واحدا أو ممولا وأحدا. وقد أشار البعض الى ان القانون يغلق الباب امام الترقى لدى الكفاءات، ويعتمد فقط على التقدميات، وهذا غير صحيح على الاطلاق اذ ان القانون فتح المجال لترقية الكفاءات بالاختيار دون التقيد بالأقدميات بنسبة 25% من وظائف المستوى الثالث ب، ثم 30% من وظائف الثالث أ، ثم 40% من وظائف المستوى الثانى ب، ثم 50% من وظائف المستوى الثانى أ، ثم 100% لباقى المستويات. وهكذا يتضح لنا أن محاور ومواد القانون ترتكز على تعزيز الحكم الديمقراطى الرشيد وإعادة تشكيل الجهاز الإدارى للدولة مع الاهتمام بتحسين جودة أدائه وخدماته وتحسين أوضاع العاملين به، وهى مسالة ليست بالبسيطة ولا بالسهلة ولكنها كانت ضرورية أساسية تحتمها مبادئ ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي