فى مشهدغريب أصرت إحدى السيدات،التى تجاوزت سن الستين،على صعود جبل حميثرة على الرغم من مشقةالصعود،قائلة: «ماقدرش أرجع بلدى من غير صعودالجبل،والحصول على بركة سيدى ابوالحسن الشاذلى». ورحلة صعود جبل حميثرة الذى يبعد 150 كيلو تقريبا غرب مرسى علم ليست باليسيرة،ففيه توجد عدة مدقات وعرة مخصصة للصعود لايقوى عليها الشيوخ، لكنهم يصرون على استكمال صعودهم.. فأنت هنا فى حضرة عرس كونى تظلله النجوم المتنهدة بالرحمة ، ووجود تتوحد فيه النفوس الصافية ، لا مكان فيه للغضب والحزن و الجفاف أو القحط.. وتبدو الاقدار وكأنها اختارت هذا المكان موقدا يضئ لنا ذكريات طريق عيذاب، طريق الحجيج .. حيث يقع ميناء عيذاب درة مؤانئ الحج في مصر في العصرين الفاطمي والأيوبي وبدايات المملوكى. فمن هنا مر حجاج المسلمين المصريون والمغاربة والأفارقة ملبين ومكبرين في طريقهم للأراضي الحجازية وعلي طول مساره تناثرت اضرحة أولياء الله الصالحين والصوفية ولاتزال آثار الميناء القديم «الذي يعد أقرب نقطة ومسافة الي جدة علي الشاطئ الآخر للبحر الأحمر باقية تروي حكايات من الزمن القديم وصولاً الي العصر الحديث. ومن أبرز حجاج هذا الطريق الحجاج المغاربة ومن اهم ماتلاحظه في رحلاته وحكاياته ان مئات بل الاف من اهل الطريق ورجال الصوفية جاءوا من الأندلس والمغرب وعايشوا المصريين وألقوا عليهم دروس العلم وقد عاد عدد ضخم منهم بعد أداء فريضة الحج ليقيموا حتي نهاية حياتهم في مصر وبين المصريين ومن هؤلاء مثلاً سيدى احمد البدوى بطنطا وسيدي عبد الرحيم القنائى بقنا وسيدى المرسى ابوالعباس بالاسكندرية وسيدى الفولى بالمنيا وسيدى أبوالحسن الشاذلي الذى جاء الى الاسكندرية قادما من تونس بعد أن تتلمذ فى مسقط رأسه قرية غمار بالمغرب على يد القطب الاكبر والعلم الاشهر المتصوف المغربى الزاهد عبد السلام بن مشيش ولما اخذ ابوالشاذلى العلم منه رحل الى مدينة شاذلة التونسية ونسب اليها فاسمه الاصلى على بن عبد الله ويصل نسبه الى الحسن بن على ابن ابى طالب وبعد ذلك انتقل الى الاسكندرية التى سكن بها 14 عاما أسس فيها الطريقة الشاذلية وذاع صيته وتزايد مريدوه وكان من اقرب تلاميذه اليه سيدى المرسى ابوالعباس الذى اختاره ان يصاحبه فى رحلته الاخيرة الى الحج عبر طريق عيذاب عام 656 هجرية وطلب منه ان يحضر معه فأسا، فلما سأله تلميذه ابوالعباس لماذا اجاب فى حميثرة سترى، ولما وصل جبل حميثرة مرض الشاذلى وجمع مرافقيه ومريديه واوصى بأن يدفن فى هذا المكان، وفعلا مات القطب الصوفى المغربى فى 6 شوال قبل موسم الحج ومن يومها، يسافر اليه ومحبوه لاحياء ذكراه يصعدون الى جبل حميثرة وكأنهم يصعدون الى جبل عرفات لدرجة ان منهم من يعتقد أن فى صعوده هذا احساس بتأدية لفريضة الحج الاصغر وأن كانت الغالبية من علماء الصوفية ينفون ذلك الاعتقاد الخاطئ . الطريق الى الحبيب تحكى مثل هذه القصص فى الصعيد وارياف الدلتا مع اختلاف التفاصيل ومع نسبتها لغير شخص، لكن المعنى واحد أنه الطريق الى الحبيب و الحج لله ، ثم ان الحج حج قلوب وارواح قبل ان تشد الاجساد الرحيل، وقد استطيع ان أن ازيد قصصا وجملا سمعتها، عن «الحجاج المغاربة القدامى فى هذا الطريق» ومن موالد اوليائهم الصالحين، ومارافقها من معجزات ومكاشفات ومكابدات روحيه فلقد كانت رحلة الحج تستغرق مابين شهر واربعين يوما ، وذكر أنه الطريق الذى سلكه الرحالة الاندلسى ابن جبير، وقال انه استغرق فيه عشرين يوما، وكان ميناء عيذاب هو بداية الرحلة البحرية الى بيت الله الحرام ومن اهم الموانئ المصرية على البحر الاحمر، وكانت ترد اليه مراكب الهند واليمن وتغادره ، وقد ظل هذا الميناء طريق الحج الوحيد الى مكة فترة زمنية طويلة وكان حجاج قنا وسوهاج واسيوط واسوان وغيرهم من بلاد الصعيد يعلنون النية عن الحج قبلها بثلاثة شهور .. ومن المثير ورغم ان الحكايات عن المتصوفة من اهل المغرب كثيرة وغزيرة ومتلاحقه لاتنضب، إلا ان الطريقة التى ظل يمارسها بعض من اعلام الفتنة والرخص فى حكاياته عن المغرب واهلها ، امر يتقاطع مع حقيقة وسلوك المغاربة وزهدهم وتصوفهم وتاريخ أسلافهم من علماء التصوف، وإذا ما جلست على حافة تاريخ هذا الطريق وناصيته فهذا كاف بان يعرف البسطاء تلك الحقيقة الغائبة التى تقول: إذا كان المشرق هو ارض الانبياء ، فإن المغرب هو ارض الاولياء، فمن المعروف أنه عندما بدأ زمن تفكك الدولة الإسلامية بين بغداد والقاهرة وقرطبة وبدأ الضعف يدب فى دولة الإسلام التى دارت عليها الدائرة وأصبحت مستهدفة خاصة بدءاً من القرن العاشر الميلادى، ورأى غالبية المسلمين أن ما لحق بدولة الإسلام إنما هو غضب من الله، وسط هذه الغمة أخذ تيار التصوف يشتد فى مشرق العالم الإسلامى ومغربه، ولأن المغرب كان فى واجهة الاستهداف، فقد جعل ذلك أهل المغرب أكثر إحساساً بالخطر، فركنوا إلى التوبة والاستعداد الروحى والمادى، وكان من أول هذه التجليات ظهور «عبدالله بن ياسين»، مؤسس دولة المرابطين، التى قامت على أسس التصوف الروحى مع الجهاد الدينى، وكان لهذه الدولة صفحات مشرفة فى الدفاع عن كيان المسلمين فى الأندلس وشمال افريقيا. وكما جاء بدراسة للكاتبة عائشة عبد الرحمن الملقبة ببنت الشاطئ، فإن التواصل الشعبى بين مصر والمغرب ليس وليد الفنون والغناء وعشق المغاربة لأم كلثوم وعبدالحليم حسبما يظن البعض من اصحاب الذاكرة الضعيفة، إنما كانت له جذور وتاريخ عريق والنصيب الاكبر منه يرتبط باولياء مصر الصالحين المغاربة، ودون إيغال في ماضي سحيق تبين الدراسة أنه من القرن الهجري الأول، وكلما أهل موسم الحج كان التعارف بين المغاربة والمصريين متاحا للطرفين على سعة من الوقت، متصلا لم ينقطع، مما يسر لمن شاء من المغاربة أن يقيم حيث شاء بالديار المصرية، فيجد أينما حل أهلا ودارا، ويحمل النسب المشترك إلى وطنه الأول، وإلى منزله بمصر. تواصلت الأجيال من المغاربة بأهل مصر. الكنانة والطرطوشى والمرسى وبدون تنسيق موجه أو تخطيط مرسوم، كان المغاربة من الحجاج والمتصوفة ينتشرون فى كل أرجاء الكنانة من أطراف الدلتا شمالا إلى الصعيد الأعلى، ومن مشارقها غربا إلى الصحراء الشرقية وساحل البحر الأحمر، فصارت منازلهم وزواياهم ، مقامات ومدارس شعبية عامرة بالمريدين، ومجالس ذكر وتر ومجاهدة. ومن أشهر أوليائنا وأولياء المغرب قاطبة «سيدي أحمد البدوي» والذى يقال له السطوحى حيث كان يعشق النوم فوق السطوح، مقامه مزار مشهور فى طنطا عاصمة الدلتا، وذكراه أعياد لنا ومواسم حتى اليوم، وجامعه هو المسجد الجامع لعاصمة وسط الدلتا، وباسمه أسس «المعهد الأحمدي» بطنطا، من أكبر وأعرق المعاهد الدينية للأزهر الشريف.. مولده بفاس سنة 596 ه وبها نشأ وحفظ القرآن الكريم وشيئا من الفقه المالكي، وفي صباه، حج أبوه «السيد علي بن محمد بن أبي بكر، الشريف الفاسي» سنة 627، ومعه ابنه سيدي أحمد، فوجهته رؤاه إلى العراق حيث لقي العارفين «الكيلاني والرفاعي» ثم رحل إلى مصر واستقر بطنطا من سنة 637 إلى وفاته بها، رضي الله عنه، في سنة 675ه. وإذا ذهبت إلى الإسكندرية ستجدها عامرة بمنازل الشيوخ المغاربة، وأصحابهم ومريديهم... بالقطع لن احدثك عن سيدى المرسى ابوالعباس حتى لاتتهمنى بالتحيز الى اسمى.. ولكن دعنى اصاحبك الى حي الطرطوشي، واحد من أكبر أحياء الثغر، ففيه مقام الفقيه المالكي الإمام، العارف القدوة " أبي بكر الطرطوشي محمد بن الوليد الفهري الأندلسي ساكن الإسكندرية، قرأ بالأندلس وحج وطاف بحواضر العلم في المشرق، ثم أقام بالإسكندرية فكان إمامها العالم القدوة في ورعة وتقواه، وفي زهده وعزوفه، كان يتسابق اليه طلاب العلم من مصر والمغرب، وعاش سبعين سنة وتوفي سنة (520ه) بالإسكندرية، ومثلما كان حى الطرطوشى، يأتى حي الشاطبي،الذى سمى نسبة الى منزل «الشاطبي الزاهد»، أبي عبد الله أبي عبد الله إبن سعادة الشاطبي محمد بن عبد العزيز، واشتهر بالعبادة وصفاء النفس، وقصده الناس للتبرك والمعرفة، ولبسوا منه فرقة التصوف، عاش بضعا وثمانين سنة، وأرخ الذهبي وفاته بالإسكندرية سنة (672ه) ومن فينا لايعرف مقام «سيدي أبي العباس المرسي الإسكندري، أحمد بن عمر الأنصاري المالكي» اقرب مريدى أبي الحسن الشاذلي، أخذ عنه الطريقة ولازمه في الظعن والإقامة، وخلفه من بعده.. وكان له مجلس عظيم حافل بالمعارف والحقائق، مع نهوضه بتدريس عدد من أمهات كتب المالكية : (المدونة، ورسالة إبن أبي زيد القيرواني، وتهذيب المدونة للبرادعي) ومنها: كتاب الإرشاد، في الأصول، لأبي المعالي الجويني إمام الحرمين، والمصابيح لمحيي السنة أبي محمد البغوي، والمحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز لابن عطية، وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، ونوادر الأصول للحكيم، وأما صعيد مصر فقد كان عامرا ايضا بمشاهد أوليائه واشهرهم سيدي عبد الرحيم القنائي: الشريف الحسني عبد الرحيم بن أحمد بن حجون السبتي المالكي" شيخ شيوخ الإسلام وإمام العارفين صحب رحل إلى مكةالمكرمة فجاور بها سبع سنين، ارتحل بعدها إلى مصر ونزل ببلدة قنا، من الصعيد الأعلى. وفيها عرفت مناقبه وظهرت كراماته وذاعت شهرته، قال عنه جعفر الأدفوي، مؤرخ الصعيد: وكانت إقامته من رحمة الله بالصعيد وأهله، اغترفوا من بحر علمه وفضله وانتفعوا ببركاته وأشرقت أنوار قلوبهم لما أدخلوا في خلواته. وقال: وكرامات سيدي عبدالرحيم مستغنية عن التعريف تكثر عن أن يسعها تأليف أو يقوم بها تصنيف، ذكر الناس منها ما يشفى الغليل ويبرئ العليل، فاكتفيت منها بالقليل. قال الأدفوي، وللشيخ مقالات في التوحيد منقولة عنه ومسائل في علوم القوم تلقيت منه، وقبره بقنا مزار، لا يكاد يخلو من زائر، قاصد وعابر. وأهل بلاده متفقون على تجربة الدعاء عند قبره يوم الأربعاء وفى في مدينة الأقصر يوجد مقام سيدي «أبي الحجاج الأقصري، يوسف بن عبد الرحيم القرشي» الولي الزاهد شيخ الزمان وواحد الأوان، صاحب المعارف المأثورة والكرامات المشهورة وما يزال حتى اليوم من معالم الأقصر المشهورة ومزارات الصعيد المباركة، وربما عرج عليه السائحون الفرنجة عند زيارتهم لمعبد الكرنك ووادي الملوك الأقصر، فشاهدوا عجبا من إكبار جماهير الشعب لأولياء الله الصالحين، وحسن المعتقد فيهم، والاحتشاد لإحياء ذكراهم. قرافات مباركة وأحمال وأهوال وحتى قرافات الموتى بمصر القديمة لم تخل من أوليائنا المغاربة .. فهناك الشيخ أبو العباس البصير، يقال انه اقام بالقاهرة زاهدا متعبدا، يقرئ بالسبع، فيقال إنه أجاز بها سبعة آلاف مقرئ من أهل مصر. حكاه السيوطي، وتوفى بها سنة 622 ه عن ثلاث وستين سنة، وكذلك إبن النعمان التلمساني المالكي الفقيه الذى جاء الى الاسكندرية شابا عارفا بمذهب مالك، راسخ القدم في العبادة والزهد على اى حال كانت رحلة الحج و كان هؤلاء الحجاج يخرجون من بلادهم ويتجمعون فى قوص مارين بالعديد من المدن والقرى على ضفتى النيل التى كانت تمتاز بكثرة اسواقها ومرافقها، وكان الاغنياء واصحاب الجاه يركبون «الشقاديف» وهى اشباه المحامل، وكان الحجاج يلقون الاهوال فى البحر الاحمر من «عيذاب» الى «جدة» بسبب عواصفه، وكان ريس المراكب يستدل طريقه بالنجوم ويصل الحجاج الى جدة بعد معاناة تصل الى 7 ايام واكثر.