تحتاج الدساتير في الأنظمة الديمقراطية الحديثة إلي الاحتشاد والتفكير والتدبير من جانب القوي السياسية والأحزاب والمؤسسات والسلطات وهيئات المجتمع المدني وغيرها, كما تحتاج إلي استلهام تجارب الآخرين, وفي هذا الصدد أري ان تجربة التحول الديمقراطي التي مرت بها إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو في20 نوفمبر عام1975 مهمة جدا, لاسيما أنها كانت تجربة فريدة وتشبه من نواح كثيرة الوضع الذي نمر به في الوقت الحالي. ومعروف أن الجنرال فرانكو اختار حفيد الملك ألفو نصو الثالث عشر الذي تنازل عن العرش عام1931 كي يخلفه في حكم إسبانيا وهو دون خوان كارلوس, ولم يختر أباه دون خوان دي بوربون لأن الأخير كان معروفا بميوله الديمقراطية, وكان فرانكو يأمل في أن يستمر نظام حكمه علي النهج الذي سار عليه طوال ما يقرب من أربعين عاما ووضعت أسسه النظرية الحركة القومية. لكن الملك خوان كارلوس بدأ يخلف ظن فرانكو بمجرد اعتلائه عرش إسبانيا لقد فكر وتأمل في أوضاع إسبانيا والوضع العالمي بصفة عامة ووصل إلي الاقتناع بأن الديمقراطية هي أفضل نظام لاستقرار الحكم واستمرار ونهضة البلاد. ولهذا لم تمر سبعة أشهر علي تشكيل اول حكومة في عهد الملك برئاسة أرياس نابارو كان من المفروض ان تواصل مسيرة فرانكو حتي استدعاه الملك في أول يوليو1976 لاجتماع قصير وطلب منه تقديم استقالته, وكانت هذه نهاية فترة الإصلاح المحدود وبداية مرحلة جديدة تشتمل علي مشروع إصلاحي كامل تقدم به أحد رجالات العهد السابق وهو أدولفو سواريث لكنه كان مختلفا تماما عن رئيس الحكومة السابق, كما كان مشروعه يتضمن ان تحصل إسبانيا علي وضع ديمقراطي حديث, وقد ثبت فيما بعد أن أدولفو سواريث كان هو الرجل المناسب لهذه المرحلة فقد كان يتمتع بالصفات اللازمة لإدارة المرحلة الانتقالية: قدرة علي الحركة وتجميع الصفوف, والشفافية, والصدق والشجاعة, وقد برزت شجاعته بصورة خاصة عندما قام العسكريون بمحاولة انقلابية واقتحم العميد تنجيرو بجنوده مجلسي النواب والشيوخ وهم في حالة انعقاد وطلب منهم جميعا أن ينبطحوا تحت الكراسي وانصاعوا جميعا للأمر ماعدا أدولفو سواريث الذي ظل وحده قائما شامخا, وقد فشلت المحاولة وكان للملك خوان كارلوس دور كبير في ذلك. بعد تولي سواريث رئاسة الحكومة في أوائل يوليو1976 حددت حكومته أهدافها علي ثلاث مراحل:1 الحصول علي موافقة مجلسي النواب والشيوخ علي قانون الاصلاح السياسي,2 تفكيك المؤسسات التي كان وجودها يمثل عقبة في طريق تطوير الحريات, ودعم روح المصالحة بين الإسبان, والموافقة علي قيام أحزاب والإعلان عن القواعد الانتخابية التي تؤدي إلي عمل انتخابات حرة ونزيهة3 الدعوة الي انتخابات عامة علي أن اهم عملية خاضتها حكومة سواريث كانت هي قانون الإصلاح السياسي, وكانت هناك نقاط جوهرية لهذا المشروع لانستطيع ان نفصلها في هذه العجالة, وان كان أهم مافيها هو ماسمي بسياسة الوفاق, وكانت هذه السياسة مهمة جدا بالنسبة لأمرين هما: مواجهة الأزمة الاقتصادية والاعداد للدستور. فيما يتعلق بالإعداد للدستور حدد قانون الإصلاح السياسي الصادر في10 سبتمبر عام1976 ثلاثة خيارات: الأول هو ان الحكومة يمكن ان تقوم بالمبادرة عن طريق تقديم مشروع قانون يقدم الي مجلس النواب والشيوخ, والثاني هو أن المبادرة يمكن ان تأتي من مجلس النواب نفسه والثالث هو ان الملك يمكن أن يخضع للشعب مباشرة حق الاختيار السياسي في هذه القضية ذات الأهمية القومية الفائقة. وقد تم استبعاد الخيار الأخير لأن تنفيذه يكون له معني في حالة وجود جمود في الوضع السياسي, أما الخيار الأول هو أن تقوم الحكومة بإعداد المشروع, فقد تم استبعاده ايضا لأنه في رأي بعض قوي المعارضة يفتقر الي الموائمة السياسية, وبالتالي تم اللجوء إلي الخيار الثاني, ومن ثم قامت لجنة الشئون الدستورية والحريات العامة بمجلس النواب بتكوين مجموعة تكون مهمتها اعداد صياغة أولية للمشروع, وقد خضع تكوين هذه المجموعة لمناقشات موسعة حتي تم التوافق بين الأحزاب المختلفة في مجلس النواب علي أسماء الاعضاء الذين سوف يقومون بهذه المهمة, وهنا ملاحظة ينبغي ان نتأملها بعمق هي ان القوي السياسية في البرلمان كانت متكافئة, لم يكن الحزب الذي شكل الحكومة وهو حزب الوسط الديمقراطي برئاسة أدولفو سواريث يتمتع بغالبية مطلقة في البرلمان, وإنما كان الفارق بينه وبين حزب المعارضة الأول وهو الحزب الاشتراكي العمالي الأسباني بزعامة فيليب جونثاليث فارقا ضعيفا, إضافة إلي أن الكتل السياسية الأخري كانت ممثلة في البرلمان بطريقة تسهل عملية الوفاق, ولهذا مرت فترة الإعداد للدستور بسلاسة وتمثلت في مراحل هي: في الفترة من أغسطس إلي ديسمبر1977 تم إعداد المشروع الأوليanteproyecto وخلال شهر يناير عام1978 قدمت المجموعات البرلمانية تعديلاتها علي هذا المشروع ثم اجتمعت اللجنة خلال شهور فبراير ومارس وأبريل1978 لصياغة المشروع النهائي للدستور, ثم خضع المشروع النهائي للمناقشة في لجنة الشئون الدستورية وانتقلت المناقشة بعد ذلك الي مجلسي النواب والشيوخ في جلسات مشتركة, وكانت المناقشات تبدأ حادة ثم تهدأ النبرة عندما يقترب النواب والشيوخ من لحظة الوفاق. وتم التصويت علي المشروع النهائي للدستور في مجلسي النواب والشيوخ يوم31 أكتوبر عام1978, وقد وصف هذا اليوم بأنه اهم يوم في تاريخ إسبانيا الحديث, وقد أبرزت نتيجة التصويت نجاح سياسة الوفاق بين الأحزاب السياسية المختلفة. وقد خضع المشروع بعد ذلك لاستفتاء عام في6 ديسمبر عام1978, وكانت نسبة الموافقين عليه من الشعب الإسباني87.9% من إجمالي المصوتين الذين كانت نسبتهم67.1%. ولاشك أن ظروفنا مختلفة عن ظروف إسبانيا وتركيبة البرلمان الحالي عندنا مختلفة عن تركيبة البرلمان الإسباني عند إعداد مشروع الدستور, ولكننا مطالبون بأن نفكر ونتأمل في إطار الشرعية التي يتيحها النظام الديمقراطي الحقيقي, بحيث لانلجأ الي صيغ وإجراءات مفروضة من قبل جماعات تتصرف بمنطق فرض الإرادة علي نحو مايحدث في النظم الشمولية.