منذ التوقيع على الاتفاق الدولى الخاص بالبرنامج النووى الإيرانى، روج فريق من المحللين أن البيئة الإقليمية باتت مهيأة لتسويات كبرى وفى مقدمتها تسوية الأزمة السورية يليها الأزمة اليمنية، ومن ثم التركيز على محاربة الإرهاب وتنظيماته المختلفة. ونقطة الانطلاق لدى هؤلاء أن إيران وبعد أن اكتسبت ثقة فى نفسها أصبحت مهيأة أكثر لكى تكون عنصرا إيجابيا فى شئون الإقليم، ومستندين إلى طرح إيران مبادرة من أربعة بنود وهى؛ وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة كتابة الدستور بما يحمى الأقليات وانتخابات بإشراف دولى. وبين المتفائلين، فريق لبنانى يرى أن التطورات المرتقبة فى الملف السورى ستؤدى تلقائيا إلى قدر من التفاهم اللبنانى، ضمنا أو صراحة بشأن الملف الرئاسى المُجمد مؤسسيا، والذى بات يثير مخاوف جادة من أن هذا الجمود الرئاسى وتداعياته على البرلمان المُعطل ذاتيا والحكومة المنفرط عقدها، قد يضع الدولة اللبنانية على مشارف انهيار فعلى وليس رمزيا كما هو حادث الآن. الحديث عن تسويات سياسية إقليمية كبرى لم ينقطع أبدا طوال السنوات الخمس الماضية، ولذا يظل السؤال المركزى هنا هل تكفى رغبات إيران أو مساعيها فى تحقيق اختراقات رئيسة فى الأزمة السورية ومن ثم فى أزمات وملفات أخرى فى الإقليم؟ أهمية هذا السؤال أن الإجابة عنه تكشف أن الأزمات محل المتابعة هى ملفات معقدة ومتشابكة ولا يتحكم فيها لاعب إقليمى أو دولى واحد يمكن لتحولات فى مواقفه أو سياساته أن تؤدى إلى تغيير طبيعة الأزمة ناحية انفراج مهم، فضلا عن أن الوضع السورى تحديدا يشهد تحولات تكاد تكون يومية ما بين الانتصار والهزيمة والانكسار والتراجع التكتيكى ثم الانقضاض وهكذا، وهى حالة سيولة لا تخص ما تبقى من جيش سوريا النظامى فقط، بل تمتد إلى كل الفاعلين الآخرين على الأرض السورية، سواء من يؤيدون النظام كحزب الله أو يعارضونه مثل جبهة النصرة وحلفائها، أو داعش والتى تحارب الطرفين معا وتلعب لحساب نفسها ضد الجميع. وبافتراض أن ثمة استجابة معقولة من الأطراف السورية جميعها على الدخول فى معمعة حل سلمى توافقى يجد قبولا وتأييدا من كل القوى الإقليمية ذات الصلة بالوضع السورى، فكيف سيتم معالجة الرفض المنتظر من قبل داعش؟ وصحيح هنا أن مدخل الحل السياسى يعد فى حد ذاته مقدمة لازمة لتنظيم وتكثيف الجهد إقليميا ودوليا لمواجهة خطر داعش لاحقا، وهو أمر تسعى إليه روسيا بالفعل من خلال دعوتها لتشكيل حلف إقليمى/ دولى يضم إيرانوتركيا والسعودية وروسيا ومباركة أمريكية لمواجهة خطر الإرهاب فى سوريا أولا وربما العراق تاليا، غير أن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب أولا تسوية سورية ناجزة، ورغم كل التحركات والزيارات واللقاءات كما فى الدوحة بين وزراء خارجية أمريكاوروسيا والسعودية، وزيارة الوزير السورى وليد المعلم إلى سلطنة عُمان المنفتحة على إيران أصلا، والتوافق غير المسبوق بين كل أعضاء مجلس الأمن على إصدار قرار بناء على اقتراح أمريكى بشأن التحقيق فى استخدام الأسلحة الكيماوية فى سوريا بما فى ذلك غاز الكلور رغم أنه غير محظور استخدامه، وكذلك ما نشر حول لقاء شخصية أمنية سورية بارزة من النظام السورى وهو على المملوك وولى ولى العهد السعودى ووزير دفاعها محمد بن سلمان، فإن تصورا مشتركا لحل الأزمة السورية لم يتبلور بعد، وما زالت عقدة الأسد، هل يبقى دائما أم مؤقتا، أم يرحل أولا وإلى أين إن تقرر الرحيل، وإن بقى فما هى الشروط، وهل سيؤدى ذلك إلى إعادة بناء النظام السورى وهو على قمة النظام تسانده أجهزة الاستخبارات العتيدة المشهود لها بالقسوة وانتهاك حقوق الناس، ويخشى منها من هو فى سوريا ومن هو فى خارجها على السواء. عقدة الأسد نالت قدرا من المناورة والتسريبات لجهة جس النبض، من قبيل الادعاء أن كلا من طهران وموسكو أصبحتا قريبتين من التخلى عن الأسد نظرا لفشله ولرغبتهما فى استثمار نتائج الاتفاق النووى لمزيد من إعادة هندسة الإقليم انطلاقا من تسوية الأزمة السورية، وللحفاظ على مصالحهما الكبرى فى سوريا المستقبل، وهى تسريبات وجدت نفيا كما وجدت ما يؤكد أنها ليست صحيحة تماما حتى الآن على الأقل. وفى ظل هذه المناورات السياسية المتقاطعة، ثمة حاجة إلى مشاورات مكثفة بين الفرقاء الإقليميين والدوليين، وثمة حاجة أيضا لإعادة هيكلة الدور التركى الذى ناور كثيرا من أجل تدمير سوريا، ولعبت مواقفه وسياساته فى دعم داعش والمنظمات المسلحة الأخرى دورا رئيسيا فى تعقيد المشهد السورى وفى إنهاك النظام وفى تهجير السوريين من بلادهم ومن مناطقهم. وكما أظهرت التطورات مؤخرا فإن تحركات تركيا تذهب إلى مزيد من إرباك الوضع السورى، فمن ناحية تسعى إلى إقامة مناطق آمنة فى داخل سوريا موازية للحدود بين البلدين بزعم تأمين السوريين المهجرين، وفى الحقيقة توظيفهم كمنطقة عازلة بين ما يجرى فى الداخل السورى وبين الأراضى التركية ذاتها، فضلا عن أن أولوية تركيا الآن هى محاربة الأكراد سواء حزب العمال الكردستانى أو من تتهمهم من الأكراد الأتراك الذين نالوا نسبة 15% فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة وحالوا دون تشكيل برلمان وحكومة يسيطر عليهما أردوغان من خلال حزبه العدالة والتنمية. والمؤكد أن هذه مصالح إمبراطورية أردوغانية بالدرجة الأولى، ولا علاقة لها بتسوية سياسية شاملة للأزمة السورية لا من قريب أو من بعيد، بل فى الواقع تؤدى إلى مزيد من تشظى الوضع السورى وإرباك أى حلول سياسية جادة إن وجدت. بالعودة إلى الفريق المتفائل أو الذى ينظر إلى أمور من زاوية تمنياته وأحلامه الذاتية بعيدا عن حقائق الواقع، يبدو لى أن الأمر فى سوريا سيتطلب المزيد والمزيد من الوقت والمشاورات وبناء تحالفات جديدة تماما، وقبل ذلك تغيرات كبرى فى سلوك إيران لكى تكتسب بعضا من الثقة من الدول العربية الرئيسية لاسيما مصر والسعودية والإمارات والأردن وغيرهم، ولا مؤشرات فعلية على ذلك بعد. وكذلك تغيرات كبرى فى سلوك تركيا الغارقة فى أوهامها، وإلى أن يحدث هذا، فليس أمام لبنان سوى الاعتماد على الذات والبدء فى تسويات تحمى الدولة والمؤسسات معا، وليس أمام السوريين سوى متابعة تجرع الآلام والمزيد من الشهداء. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب