بعد سنوات طويلة من الصراع و«الحرب الكلامية» خرجت الينا إيران فى مشهد هو الأكثر تعبيرا عن قوة علاقتها بالولاياتالمتحدة والغرب.. وبمجرد النظر الى تلك الصورة التذكارية للدول الست وايران - ايران من جانب والدول الست تواجهها من الجانب الاخر - بعد توقيع الاتفاق النووى الإيرانى مع مجموعة دول (5+1)، نجد ان ايران تسعى للظهور وكأنها دولة اقليمية عظمى يصعب تجاوزها أو عدم أخذ مصالحها فى الحسبان فى اى ترتيبات اقليمية مستقبلية. الأسئلة الأكثر الحاحا بعد هذا الاتفاق كثيرة وتتقافز فى الأذهان منذ الإعلان عن هذا الاتفاق بعد مفاوضات استمرت نحو عامين، ينص على رفع العقوبات الدولية عن إيران، مقابل تخليها عن الجوانب العسكرية لبرنامجها النووي، ولعل أكثر هذه الأسئلة الحاحا هى هل الولاياتالمتحدةوإيران بالفعل عدوتان أو بمعنى أدق هل تمثل ايران تهديدا حقيقيا لأمن دولة إسرائيل؟ وما هو التأثير المباشر لهذا الاتفاق على الأمن الإقليمى بالمنطقة؟.. وكيف أعدت الولاياتالمتحدة دولة إيران كمسرح لعملياتها فى حربها المحتملة مع الصين خلال الربع قرن القادم؟ اللواء محمد الغبارى المحلل الاستراتيجى ومدير كلية الدفاع الوطنى الأسبق وصف هذا الاتفاق بأنه عبارة عن تغيير فى استراتيجية الولاياتالمتحدة فى تعاملها بالمنطقة العربية، ففى البدء كانت تستخدم إيران كفزاعة لتخويف دول المنطقة العربية وعلى رأسها دول الخليج من الخطر النووى الإيرانى مثلما حدث مع العراق عندما روجت أمريكا للخطر النووى العراقى، وعندما انتهت الولاياتالمتحدة من العراق كان لابد من وجود بديل للعراق يضمن استمرار وجود قواعدها العسكرية، وكانت إيران هى هذا البديل. وأكد الغبارى أن هذا المخطط لم يكن بين يوم وليلة، ولكن بدأ فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى عندما أججت الولاياتالمتحدة حرب «الاحتواء المزدوج» بين العراقوإيران بهدف انتاج قوة واحدة لإرهاب العرب، وكانت نتيجة هذه الحرب التى استمرت 9 سنوات غزو العراق للكويت، ثم حرب تحرير الكويت التى كانت ذريعة الولاياتالمتحدة لوضع قواعد عسكرية دائمة فى المنطقة وكان هذا هو الهدف الحقيقى من الحرب. وقال المحلل الاستراتيجى إن الولاياتالمتحدة قامت بعد ذلك بتدمير العراق فكان لابد لها من إيجاد سبب منطقى لاستمرار قواعدها العسكرية بالمنطقة، فكانت «إيران النووية» هى تلك الدولة «البعبع» صنيعة أمريكا التى ضمنت استمرار وجودها وسيطرتها على المنطقة وحفاظها على بقاء وأمن إسرائيل مستغلة فى ذلك تاريخها القديم والترويج لتطلعاتها التوسعية ومشروعها فى إحياء الإمبراطورية الفارسية، وبالتالى أكل العرب الطعم واستمروا فى اللجوء الى الولاياتالمتحدة للوقوف أمام تلك التطلعات الفارسية. وأضاف الغبارى أن الولاياتالمتحدة لم تسمح لأى طرف من القوى الاقليمية فى المنطقة بالدفاع عن أمن الخليج، فألغت وجمدت إعلان دمشق الذى كان ينص على اشتراك مصر وسوريا فى اتفاقية لتأمين الخليج العربى، وحاليا تسعى بكل قوة إلى إجهاض فكرة تكوين قوة عربية مشتركة تكون من مهامها حماية الأمن القومى العربى حتى تضمن استمرار تواجد قواعدها فى المنطقة، وأشار الغبارى إلى أن إيران لم تكن يوما عدوا للولايات المتحدة، وأكد أن مسرح العمليات القادم لأمريكا هو شرق آسيا لإن الدائن الأكبر للولايات المتحدة هى الصين وبالتالى فإن الصدام المحتمل خلال الربع قرن القادم سيكون مع الصين، وبالتالى فإن أمريكا تعمل على تجهير مسرح عملياتها لهذه الحرب المحتملة من الآن بحيث يكون مركز القيادة الأمريكية المركزية فى دولة قطر. ويؤكد اللواء الغبارى أن الاتفاق الذى أبرمته إيران مع مجموعة دول (5+1) يمثل تهديدا مباشرا للأمن الإقليمى، وأن إيران تعمل حاليا بعد توقيع الاتفاق على التمدد أكثر داخل العراق، وتستخدمها الولاياتالمتحدة كضاغط على المملكة العربية السعوديةلتنفيذ خريطة الشرق الأوسط الجديد، كما أنها بهذا الاتفاق قطعت الطريق أمام حل أزمة جزر أبو موسى الإماراتية التى تحتلها إيران، وفى النهاية فإن الولاياتالمتحدة تعى تماما أن إيران لاتسعى لصنع قنبلة نووية وأن دورها يقتصر فقط على تخويف العرب والاستعداد للحظة الصدام مع الصين. من جهة أخرى وصف الصحف الأمريكية هذا الاتفاق بأنه خطوة «متوقعة» ، فقد اعلن الرئيس الأمريكى باراك اوباما بعد انتخابه للمرة الثانية ان اولويات استراتيجية الولاياتالمتحدةالامريكية ترتكز على محورين، الأول هو التصدى للعجز فى الميزان التجارى والدين العام الذى بلغ16.7 تريليون دولار, وللمشاكل بين الجمهوريين والديمقراطيين حول رفع سقف الدين الامريكى وتمويل العجز وتسديد مستحقاته.والثانية: الانسحاب من الشرق الاوسط نحو محيط الباسيفيك وجنوب اسيا للتصدى للعملاق الاقتصادى الصينى الذى سيتجاوز الامريكى عام 2020 فى التربع على قمة الاقتصاد العالمي.وبعد الفشل الكبير لمشروع الاسلام السياسى فى الحكم, والذى اوكلته امريكا رعاية مصالحها فى الشرق الاوسط, من ليبيا الى تونس الى مصر الى سوريا رغم عشرات المليارات التى صرفت عليه لم يستطع هذا الفصيل البقاء فى الحكم لاكثر من عام وتحول الى حالة تكفيرية ارهابية حولت سوريا والشرق الاوسط الى ساحة حرب باتت تهدد السلم والاستقرار العالميين. وبعد عجز التحالف الغربى الإسرائيلى عن كسر محور المقاومة الذى تشكل إيران قاعدته المركزية، لا سيما عقب فشل عدوان يوليو لعام 2006، وحرب غزة 2008 2009، والفشل الحالى فى سوريا باتت امريكا بامس الحاجة الى اى حل يطفيء الحرب المتفاقمة حتى تتفرغ لاولوياتها. وفى النهاية فإن الملف النووى الإيرانى لم يكن سوى «حجة» أمريكية فى صراعها مع إيران, حيث أن الأخيرة لم تعلن نيتها بناء سلاح نووى ولم تحاول حتى السير فى مشروع نووى عسكرى منذ البدء, وكان بوسع امريكا والغرب قبل سنوات الحصول على شروط أفضل بكثير مما حصلوا عليه فى الاتفاق النووى الاخير. حيث كانت ايران تمتلك 164 طاردا مركزيا عند بدء التفاوض، اما الان فهى تمتلك أكثر من 20 الف طارد مركزى وتخصب اليورانيوم بنسبة 20% داخل حدودها، ولكن الغرب فوت كل فرص تفاوضه مع إيران لأن السبب الحقيقى ليس الملف النووى الإيرانى بل هو صراع جيوسياسى متعلق بالطاقة والمطامع الأمريكية للوصول الى ثروات بحر قزوين ووسط آسيا, واثبت ذلك تصريح السفير الأمريكى فى باكستان قبل بضعه شهور بأن الولاياتالمتحدة تدعم خط غاز من تركمانستان غبر أفغانستان الى باكستان وتعارض خط الغاز الإيرانى الى باكستان فالهند, حيث أن الخط الذى تدعمه واشنطن تفاوضت لأجله أكثر من خمس سنوات وقاتلت لأجله أكثر من عشر سنوات وبقى حبراً على ورق, وعجزت واشنطن عن ان تلزم حليفتها باكستان وقف الشراكة مع إيران, وبالتالى منذ بدء مد خط الغاز الإيرانى الى باكستان أصبح المطلوب أمريكيا طى الملف النووى الإيرانى لأن قيام باكستان ببدء تنفيذ خط غازها الى إيران كان له دلالات كبيرة بأن حلف الناتو هزم فى أفغانستان ولم يستطع التحكم بمسارات انابيب الطاقة لتطويق الصين, ولم يعد لوجوده هناك اى جدوى, وتبددت احلام واشنطن بمد خط غاز عبر أفغانستان بعد كل تلك السنوات التى هدرت فى الحروب والتفاوض.