8 مايو 2025.. أسعار الأسماك في سوق العبور للجملة اليوم    محافظ أسيوط: قرارات حاسمة لتقنين الأراضي وتحفيز الاستثمار وتحسين الخدمات    طيران الإمارات: تعليق الرحلات إلى باكستان حتى 10 مايو    شهداء ومصابون في غارات إسرائيلية على قطاع غزة منذ فجر اليوم    لويس إنريكي: لم أتمنى مواجهة برشلونة في نهائي دوري الأبطال    محافظ أسيوط: سحب عينات من المواد البترولية لفحص جودتها    محافظ أسيوط: تنظيم فعاليات بمكتبة مصر العامة احتفاءً بذكرى نجيب محفوظ    رئيس الوزراء يتفقد مستشفى محلة مرحوم التخصصي ومشروع تغطية المصرف المواجه لها    الولايات المتحدة تعتزم تعيين حاكمًا أمريكيًا للإدارة المؤقتة لقطاع غزة    محافظ الدقهلية توريد 112 ألف طن قمح لشون وصوامع الدقهلية منذ بدء موسم الحصاد    الغندور: بيسير لا يرى سوى 14 لاعبا يصلحون للمشاركة في الزمالك    أزمة مباراة القمة.. هل تحرم لجنة التظلمات الأهلي من التتويج بفصل الختام؟    الجدل يتصاعد حول قانون الإيجار القديم: نواب يطالبون بالتأجيل والمواطنون يرفضون الزيادات    طقس اليوم الخميس.. درجات الحرارة تقفز ل 39 درجة    تخفيف الحكم على قاتل والدته بالإسكندرية من الإعدام للسجن المشدد    امتحانات الدبلومات الفنية.. رابط تسجيل استمارة التقدم قبل غلق ملء البيانات    وزير التعليم يشيد بقرار رئيس المركزي للتنظيم والإدارة بشأن آلية نتيجة مسابقات وظائف المعلمين المساعدين    أبناء محمود عبدالعزيز وبوسي شلبي في مواجهة نارية أمام القضاء    وزير الثقافة يترأس الاجتماع الثاني للجنة دراسة التأثيرات الاجتماعية للدراما المصرية والإعلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 8-5-2025 في محافظة قنا    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    وزير الاتصالات يلتقي محافظ طوكيو لبحث التعاون في مجالات بناء القدرات الرقمية ودعم ريادة الأعمال    قسم الأمراض العصبية والنفسية بجامعة أسيوط ينظم يوما علميا حول مرض الصرع    وزير الصحة يستقبل وفد مجموعة "برجيل" الطبية لبحث سبل التعاون المشترك بالقطاع الصحي    عاجل- هيئة الدواء المصرية تسحب دواء «Tussinor» من الأسواق    مصرع شخص سقط تحت عجلات القطار بالمراغة سوهاج    جامعة عين شمس تفوز بجائزتين في المهرجان العربي لعلوم الإعلام    سعر جرام الذهب اليوم فى مصر الخميس 8 مايو 2025.. تراجع عيار 21    بعد صعود سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الخميس 8-5-2025 صباحًا للمستهلك    مدير مكتبة الإسكندرية يفتتح ندوة المثاقفة والترجمة والتقارب بين الشعوب - صور    الزمالك يستعيد مصطفى شلبى أمام سيراميكا في الدورى    الكرملين: محادثات بوتين وشي جين بينج في موسكو ستكون مطولة ومتعددة الصيغ    البرلمان الألماني يحيي ذكرى مرور 80 عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية    هجوم بطائرات درون على مستودعات نفطية في ولاية النيل الأبيض بالسودان    لدعم فلسطين.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات الطلاب    حريق يلتهم منزلين بدار السلام سوهاج دون إصابات بشرية    وزير الصحة ونقيب التمريض يبحثان تطوير التدريب المهني وتعميم الأدلة الاسترشادية    انتصار تصور فيلمًا جديدًا في أمريكا    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 8 مايو 2025    اقتصادي: 2.3 تريليون جنيه فوائد الدين العام الجديد    دور المرأة في تعزيز وحماية الأمن والسلم القوميين في ندوة بالعريش    الطب الشرعي يفحص طفلة تعدى عليها مزارع بالوراق    البابا تواضروس الثاني يصل التشيك والسفارة المصرية تقيم حفل استقبال رسمي لقداسته    بروشتة نبوية.. كيف نتخلص من العصبية؟.. أمين الفتوى يوضح    قاض أمريكى يحذر من ترحيل المهاجرين إلى ليبيا.. وترمب ينفى علمه بالخطة    جامعة حلوان الأهلية تفتح باب القبول للعام الجامعي 2025/2026.. المصروفات والتخصصات المتاحة    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    ميدو يكشف موقف الزمالك حال عدم تطبيق عقوبة الأهلي كاملة    إكرامي: عصام الحضري جامد على نفسه.. ومكنش يقدر يقعدني    إطلاق موقع «بوصلة» مشروع تخرج طلاب قسم الإعلام الإلكتروني ب «إعلام جنوب الوادي»    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالمنيا    أسفر عن إصابة 17 شخصاً.. التفاصيل الكاملة لحادث الطريق الدائري بالسلام    كم نقطة يحتاجها الاتحاد للتتويج بلقب الدوري السعودي على حساب الهلال؟    عودة أكرم وغياب الساعي.. قائمة الأهلي لمباراة المصري بالدوري    «لعبة الحبّار».. يقترب من النهاية    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العودة إلي خطاب المساعي المشكورة‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 03 - 04 - 2010

لم أنس أبدا ذلك اليوم‏,‏ فقد كان السادس والعشرون من فبراير‏2005‏ يوما تاريخيا بحق برغم أنه بدا في الصباح الباكر منه كأنه سوف يكون يوما آخر من أيام الأسبوع أو السنة أو العمر‏.‏ إذ قطعه اتصال تليفوني من الأمانة العامة للحزب الوطني الديموقراطي في السادسة صباحا تقول إن الرئيس مبارك سوف يلقي خطابا مهما في مدرسة المساعي المشكورة بالمنوفية‏,‏ ومن المطلوب وجودي مع عدد من أعضاء المجلس الأعلي للسياسات للاستماع إلي قائد الحزب‏.‏ ولم يمض وقت طويل حتي جاء تليفون آخر من قيادة حزبية رفيعة تقول إن خطاب الرئيس سوف يكون فيه ما يسعدني للغاية‏,‏ حيث يمس قضية تتعلق باتجاه آراء كثيرا أبديتها كتابة‏,‏ وفي المناقشات الحزبية المختلفة‏,‏ وبعد ذلك تعددت المكالمات التليفونية‏,‏ لكي تقول كل ذلك بينما لا يصرح أحد أبدا بفحوي الخطاب ولا طبيعة المفاجأة المنتظرة‏.‏
وهكذا‏,‏ انطلقت في طرق محافظة المنوفية حتي وصلت إلي المدرسة التي كنت أعلم أن الرئيس مبارك قد قضي فيها دراسته الثانوية‏,‏ وكنت أسمع عنها كثيرا عندما كنت في سنوات الدراسة الأولي بمدينة الباجور باعتبار أنها من مدارس محافظة المنوفية التاريخية والمرموقة وذائعة الصيت بالتقاليد والتعليم رفيع المستوي‏.‏
عندما وصلت هناك وجدت وجوها أعرفها لزملاء وأصدقاء وكلهم في حالة غير عادية من الحبور الذي تسربت أسبابه بأنه يعود لتعديلات دستورية مهمة‏;‏ أما الهمس الأكبر فقد كان وقانون الطوارئ أيضا‏.‏ ورجع الخاطر فورا إلي الأسابيع الأخيرة وبالتحديد إلي ذلك اللقاء الذي جري بين الرئيس مبارك وعدد من المثقفين والإعلاميين المصريين يوم الرابع والعشرين من يناير‏2005,‏ أي قبل شهر تقريبا من الخطاب‏,‏ حينما كان موضوع التعديلات الدستورية مطروحا‏,‏ ولفت النظر ساعتها أن الرئيس علق علي مقترحات قال بها الأستاذ صلاح عيسي في الموضوع إن ذلك كلام معقول ويمكن التفكير فيه‏.‏
في ذلك الوقت شطح بي الذهن إلي عالم النظريات في العلوم السياسية التي تفرق بوضوح ما بين المفكر والسياسي‏;‏ فالأول إذا سلمت نيته لا تحده حدود أو سقوف‏,‏ وعلي الأرجح فإنه مثالي بطبعه‏,‏ ويحسن الظن بالظروف‏,‏ وهو يريد التغيير ويتعجله‏;‏ والثاني لا بد أن يراجع‏,‏ ليس أولوياته وحده‏,‏ وإنما قبلها أولويات شعبه‏,‏ وهو محدود بالممكن‏,‏ ولا يهمه فقط خطوة التغيير الأولي‏,‏ وإنما خطوات التغيير التي تليها وما سوف يترتب عليها من تحولات وتكاليف‏.‏ الأول يحلق في آفاق بعيدة ويضجر من كل تأخير‏,‏ والثاني يعرف أن كل خطوة لها استعداداتها‏,‏ وظروفها الناضجة‏,‏ ومدي تقبل واستعداد الناس لها‏,‏ وكل ذلك بصبر أيوب وحكمة الخبرة والمنصب‏.‏
وبعيدا عن النظريات لا أدري شخصيا ما الذي جال في ذهن الرئيس مبارك ساعتها‏,‏ والأغلب أن حديث المثقفين والإعلاميين‏,‏ والمعقول منه وغير المعقول‏,‏ كون جزءا من عملية التفكير الجارية في ذهن الرئيس وداخل الحزب الوطني الديمقراطي حول أن اللحظة حان وقتها لتغييرات دستورية تخص واحدة من أهم مواد الدستور وهي التي تتناول طريقة اختيار رئيس الجمهورية‏.‏ وما جاء بعد ذلك في الخطاب معروف فقد تمت أكبر خطوة نوعية في التاريخ المصري منذ وحد الملك مينا القطرين حينما أصبح من خلال تعديل المادة‏76‏ رأس الدولة منتخبا من الشعب مباشرة‏,‏ ومن خلال انتخابات رئاسية تنافسية يتساوي فيها المرشحون من حيث طرح البرامج‏,‏ والتفاعل مع الرأي العام‏.‏ وفوق ذلك أعلن الرئيس أنه آن الأوان لكي يتم إعداد قانون لمكافحة الإرهاب يصبح معه استمرار حالة الطوارئ لا معني له‏,‏ قياسا علي ما حدث في بلدان أخري‏.‏
ما جري بعد ذلك معروف من تطورات وجدل حول التعديلات الدستورية التي جاءت بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام‏2005,‏ وكان لي رأي فيها مسجل في جلسات الاستماع التي عقدها مجلس الشعب‏,‏ وفي الجلسات التي عقدها الحزب الوطني سواء كانت موسعة أو ضيقة تجمع مجموعة من الخبراء‏,‏ وبعد ذلك مجموعة من المقالات التي خصصتها للموضوع ونشرت في صحيفة الأهرام وصحف أخري في ذلك الوقت‏,‏ ودارت كلها حول الجمهورية الرئاسية الديمقراطية‏.‏ ورغم الاختلاف هنا والتحفظ هناك‏,‏ فإن الأوضاع السياسية في مصر لم تعد كما كانت‏.‏
وربما لم تكن محض مصادفة أنه بينما كانت إجراءات الإصلاح السياسي تأخذ مجراها بأصوات عالية‏,‏ كانت تجري عملية تغيير اجتماعي واقتصادي واسعة كانت لها أصداؤها وضوضاؤها هي الأخري‏,‏ خاصة أن مصر‏,‏ والمنطقة‏,‏ أصبحت تشهد أكبر انفجار إعلامي بالكلمة والصوت والصورة‏.‏ وعلي الفضائيات المعلومة والافتراضية معا‏.‏ ومع كل ذلك لم يعد في مصر حراك سياسي فقط‏,‏ وإنما حراك اقتصادي وآخر اجتماعي لم يكونا أقل أهمية وخطورة من الحراك الأول‏.‏
ما تقودنا إليه هذه القصة‏,‏ هو أن كثيرا من الحراك السياسي الحالي كانت نقطة البداية فيه ذلك الخطاب في مدرسة المساعي المشكورة بمحافظة المنوفية الذي بدأ سلسلة من التغييرات وصلت بنا الآن إلي أن تحالف الأحزاب الأربعة الوفد والتجمع والناصري والجبهة الديمقراطية عقد مؤتمرا مطالبا بالتغيير الدستوري‏,‏ وإلي اتجاه مجموعة من المثقفين والإعلاميين الذين تقلبوا بين حركات سياسية كان لها أسماء شتي في مراحل مختلفة‏,‏ لكنها تركز أغلب الوقت علي ضرورة تغيير الدستور‏,‏ وأحيانا أخري علي تعديل مواد بعينها هي المواد‏76‏ و‏77‏و‏88.‏ وتلك الحركات وجدت في الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية زعيما ورمزا لها‏,‏ وذهبت في اتجاه الحصول علي التأييد السياسي لمطالبها الدستورية من خلال جمع توقيعات من المصريين‏.‏ ورغم أن نتيجة التوقيعات حتي وقت كتابة هذا المقال جاءت مخيبة للآمال‏,‏ حيث لم يوقع إلا عشرة آلاف مواطن من‏84‏ مليون مصري علي عريضة التغيير‏,‏ إلا أن القضية مع ذلك تظل مطروحة بإلحاح بين المثقفين والسياسيين وبطريقة لا يمكن تجاهلها‏.‏
وبصراحة‏,‏ ومع كل الاحترام لأصحاب الدعوات المطروحة‏,‏ والتوقيعات المختلفة‏,‏ فإن القضية الدستورية لن تكون مطروحة بحق ما لم يتولها أو يتبنها الحزب الوطني الديمقراطي ويضعها علي قائمة أولوياته ليس فقط لأنه الحزب الحاكم‏,‏ ولكن أيضا لأنه يضم نخبة كبيرة من خيرة العقول المصرية‏.‏ وداخل الحزب فإنه من المقدر تماما تلك الأسباب التي يراها جانب من الأعضاء حول عدم إلحاح القضية بالنسبة للمواطنين علي اتساعهم‏,‏ وضعف الطلب السياسي علي الموضوع من قبل الغالبية‏,‏ إلي جانب أن التعديلات الدستورية التي تمت فعلا لم يمر عليها إلا دورة سياسية انتخابية واحدة‏,‏ ومن ثم‏,‏ وكما هي الحال في بلاد العالم الأخري‏,‏ فإن الأمر كله يحتاج إلي فترة زمنية كافية ما بين تغيير وآخر بحيث لا يفقد الدستور احترامه كوثيقة قانونية لها القدرة علي الاستمرار والبقاء‏.‏
لكن هذه العوامل علي جدارتها تغفل أن المطروح هذه الأيام لا يتعلق بتعديلات دستورية فقط‏,‏ وإنما بالتفكير في ترتيبات بعيدة المدي لا ترتبط بالضرورة بالانتخابات المقبلة التي علينا جميعا في الحكم والمعارضة أن نعمل علي نزاهتها‏,‏ وفق التقاليد التي أرستها القواعد القائمة‏,‏ حتي يتم تغييرها من خلال عملية قانونية ودستورية تأخذ وقتها خلال فترة الرئاسة المقبلة‏.‏ وسبب هذا الطرح هو أن مصر تغيرت خلال السنوات الخمس الماضية بحيث أن الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي بل حتي الجغرافي والديموغرافي جعل القنوات السياسية في بلادنا أضيق من استيعاب الحراك الذي حدث في مصر‏.‏
لقد سبق في مقالات أخري أن فصلت في طبيعة التغييرات الجارية في مصر من أول الزيادة السكانية‏,‏ وزيادة نسبة الشباب الأفضل تعليما وصحة وعولمة واتصالا بالخارج‏,‏ والوصول إلي البحرين الأحمر والأبيض وخليجي سيناء‏,‏ وحتي التغيرات في حجم الطبقة الوسطي والثورة الإعلامية الجارية في البلاد‏.‏ ولكن ما أضيفه هنا هو التأثيرات الكبيرة لتنفيذ برنامج الرئيس مبارك‏,‏ الذي أوشك علي الاكتمال رغم الأزمة الاقتصادية‏,‏ حيث جري بناء ألف مصنع‏,‏ وآلاف المدارس والمستشفيات‏,‏ والتوسع الهائل في البنية الأساسية‏,‏ وتحقيق أكبر وأعمق إصلاح مالي في البنوك وشركات التأمين والبنك المركزي‏,‏ وإصدار قوانين هيكلية من ضريبة الدخل والعقارات والمعاشات والمباني وتحرير الطريق أمام القطاع الخاص‏,‏ وتتويج ذلك كله باستثمارات فعلية مصرية وأجنبية سوف تتجاوز تريليون جنيه مصري مع نهاية الفترة الرئاسية الحالية‏.‏
كل ذلك في بلد مثل مصر لا يجعلها تبقي علي ما هي عليه‏,‏ بل يعيد تشكيلها اقتصاديا واجتماعيا‏,‏ بحيث يصبح من الصعب تجاهل ضرورة إعادة التشكيل السياسي أيضا بشرط الإعداد الجيد‏,‏ والتوافق الوطني حول التغيرات المطلوبة‏;‏ والأهم من ذلك كله أن نواجه القضايا الأساسية التي طالما كانت موضعا للشد والجذب مثل علاقة الدين والدولة‏,‏ ومدي تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع‏,‏ وعلاقة مصر بالعالم الذي تعيش فيه‏;‏ وهي قضايا كلها يجري تجاهلها‏,‏ بل الهروب منها‏,‏ من قبل كثرة ممن يصرخون بالتعديلات الدستورية الآن‏.‏
التفكير إذن مطلوب من قبل الحزب الوطني الديمقراطي وكما كان هو الذي قاد الطريق إلي التعديلات الدستورية الأخيرة فإن من واجبه أن يقود البلاد إلي التغييرات القادمة‏,‏ ويحدد موعدها‏,‏ في الوقت الذي يدير فيه عمليات الانتخاب المقبلة‏.‏ وهنا فإن العودة إلي خطاب المساعي المشكورة يطرح مرة أخري مسألة وضع قانون لمكافحة الإرهاب يؤدي إلي إنهاء حالة الطوارئ‏.‏ وفي حدود العلم فإن المناقشات التي جرت داخل الحزب الوطني‏,‏ وبين الجهات الأمنية والقانونية المعنية‏,‏ كان فيها توافقات واسعة حصرت الخلاف حول قضيتين‏:‏ أولاهما مدة الحبس الاحتياطي المتاحة لرجال الأمن لاستخدامها للتحقيق في قضايا إرهابية حرجة تهدد أمن البلاد‏;‏ وثانيتها‏,‏ الواجب عمله مع أعداد كبيرة من الإرهابيين الذين سوف يخرجون من السجون دون بادرة قاطعة منهم علي استعداد للتخلي عن العنف والإرهاب‏.‏
ولا توجد نية هنا في هذا المقال للتدخل لصالح هذه الحجة أو تلك خاصة أن المشاركين فيها من أساطين القانون‏,‏ وخبراء الأمن الكبار‏,‏ وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال فإن الهم الأول لرجل القانون هو حماية الحريات العامة‏;‏ أما رجل الأمن فإن همه الأول هو حماية الأمن والاستقرار في البلاد‏,‏ وكلا التوجهين مشروع ومقدر‏.‏ ومع ذلك فإن هناك مجموعة من الاعتبارات التي يصعب تجاهلها‏:‏ أولها‏,‏ أن هناك وعدا رئاسيا في مدرسة المساعي المشكورة وهذا الوعد تكليف لكل الجهات المعنية أن تقوم بواجبها في البحث عن التوازن الذي وصلت له بلاد العالم المختلفة ما بين الحريات العامة والفردية من ناحية ومقتضيات الأمن من ناحية أخري‏.‏
وثانيها‏,‏ أن إجراء الانتخابات العامة المقبلة لمجلسي الشوري والشعب‏,‏ ثم انتخاب رئيس الجمهورية‏,‏ سوف يتعرض لحرج ما في الداخل والخارج‏,‏ إذا ما حدث في ظل قانون الطوارئ‏.‏
وثالثها‏,‏ أنه آن الأوان لقفزة هائلة في تمويل الأجهزة الأمنية بحيث تستطيع التعامل دون مزيد من الإرهاق مع التحديات المتزايدة للإرهاب المحلي والدولي‏.‏ ومن المدهش أن يكون للعاملين في مجالات التعليم والصحة والأزهر‏,‏ والموظفين العموميين في الدولة والقطاع العام وقطاع الأعمال العام من يعمل علي زيادة مواردهم من الموازنة العامة‏,‏ بينما لايوجد من يعمل علي ذلك بالنسبة للرجال الذين يضعون أرواحهم علي أكفهم من أجل حماية أمن الوطن‏.‏ والمسألة هنا ليست فقط إعطاء المزيد من الرعاية لقطاع مهم من قطاعات الشعب المصري‏,‏ ولكن إعطاء‏,‏ه أيضا مزيدا من القدرات للتعامل مع أوضاع أمنية متغيرة حال إنهاء قانون الطوارئ‏.‏
ورابعها‏,‏ أنه لا بأس من المرحلية أحيانا في التعامل مع قضايا معقدة‏,‏ وإذا كان إطلاق سراح أعداد كبيرة من المعتقلين الإرهابيين سوف يسبب رهقا للأجهزة الأمنية فإن اللائحة التنفيذية لقانون مكافحة الإرهاب يمكنها أن تجعل عملية إطلاق سراح المعتقلين علي مراحل حسب التوسع في القدرات المتاحة‏.‏
وخامسها‏,‏ وبصراحة كاملة‏,‏ فإن وضع عملية مكافحة الإرهاب والعنف علي عاتق قوات وأجهزة الأمن وحدها هو تهرب من المسئولية السياسية والفكرية لجماعات شتي تقع في الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وأجهزة الإعلام المختلفة‏;‏ مادام الإرهاب يبدأ أولا في عقول البشر‏,‏ فإن المعركة الأساسية تجري هناك أيضا في عقول البشر‏.‏
لقد انتهي خطاب المساعي المشكورة بحزمة من السياسات المفعمة بالآمال الكبري حول نقلة كيفية في الحياة السياسية والاقتصادية المصرية ربما كان أهم ما فيها أنها أضافت التنمية وهو مفهوم شامل يعني تقدم المجتمع كله إلي الأمن كجوهر للسياسة المصرية‏.‏ وبالفعل تمت ترجمة ذلك كله إلي سياسات وأفعال جري تطبيقها خلال السنوات القليلة الماضية وبدرجة مناسبة من النجاح والإنجاز‏.‏
والآن‏,‏ وداخل الحزب الوطني تحديدا‏,‏ فقد آن أوان التفكير فيما يجب التفكير فيه للبناء علي ما سبق خلال السنوات الخمس الماضية‏;‏ وهي سنوات لم تكن سهلة علي الإطلاق‏,‏ فما كانت المجالس التشريعية علي الحال التي كانت عليها من قبل‏,‏ وما كانت الأسواق علي الحال التي كانت عليها في الماضي‏,‏ وما بين أزمة ارتفاع أسعار الغذاء والمواد والطاقة‏,‏ والأزمة الاقتصادية والمالية العالمية جرت عملية الإصلاح الاقتصادي والسياسي في مصر‏,‏ وكانت هي وحدها الضامن لاستمرار المسيرة المصرية نحو الأمن والتنمية دون اضطراب‏.‏
التحدي القائم الآن هو كيف نعد البلاد سياسيا للتعامل مع عالم ما بعد الأزمة الاقتصادية الذي ظهرت بعض من ملامحه وقسماته في تحديات تأتي لبلادنا ليس من الدول الغربية فقط وإنما من الصين والهند‏,‏ حيث القدرة علي إنتاج السلع والخدمات بأسعار التراب‏,‏ كما يقال‏,‏ تضغط علي الدول النامية بأكثر من ضغطها علي الدول المتقدمة‏.‏ ولكن هذه قصة أخري‏,‏ تتطلب حديثا آخر‏,‏ ولكن المغزي منها أننا نعيش في عالم لا يكف عن التغير‏,‏ وما لم نتغير أيضا‏,‏ وبالسرعة المناسبة‏,‏ فإن تكلفة المستقبل سوف تكون أعلي مما نتصور؟‏!.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.