من خصائص النظام الإسلامي حسن التعامل مع سنة الاختلاف بين الخلق نظرا لعالميته المميزة له ولأنه الرسالة الخاتمة ولا يجمع الناس على اختلاف عقائدهم إلا نظام يحمل بين طياته أسس التسامح عنصرا أصيلا واضحا سواء بين المسلمين بعضهم بعضا أو بين المسلمين وغيرهم من المخالفين لهم المعايشين لهم في الأوطان أوالخارجين عن حدود دولتهم . يقول الدكتور القرضاوي عن التسامح مع غير المسلمين " إن أعظم ما يميز التسامح الإسلامي يتجلى فيما نسميه (روح التسامح الديني) عند المسلمين مع غيرهم ذلك أن هناك شيئًا لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات. ذلك هو (روح السماحة) التي تبدو في حُسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وتبادل الهدايا وجواز إعطائهم من أموال الصدقة وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان وود الصديق والإحسان إلى الخادم والدعوة إلى الحوار وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء. وهذه الروح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي. تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}(لقمان: 15) " وتجلت عظمة التشريع الإسلامي في إقرار مبدأ التسامح مع غير المسلمين بداية من عدم النظر إليهم في كفرهم كتلة واحدة كأنه لا فرق بينهم فقد قال الله تعالى : لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران/113] بل قسمهم إلى فئات أربع وظهر التسامح في تفصيل كيفية تعامل كل فئة بما يتناسب ووضعها: فالفئة الأولى ذميون(مواطنون) وهم الذين يعيشون في بلاد المسلمين تحت حكمهم وهم من أهل بلادهم وتجلى التسامح التشريعي معهم بأنهم بميثاق الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية المسلمين يتمتعون بكافة حقوق المسلمين وعليهم ما عليهم وهم المعنيون في القرآن بالتحاور والمجادلة بالتي هي أحسن قال تعالى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) [الممتحنة/8، 9] بل أمر الله بالتودد والإحسان إليهم إن كان هناك قرابة أو صلة رحم أو مودة جيرة وأكد ذلك قائد المدرسة المحمدية فقد روت أسماء بنت أبي بكر قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ، إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : نعم ، صلي أمك. الفئة الثانية مستأمَنون وهم من يدخلون البلاد بتأشيرة ليس له حق الإقامة الدائمة مثل السياح والعاملين في القنصليات والسفارات الأجنبية في بلادنا أو الوفود فهؤلاء يؤمنون على أنفسهم وأموالهم ولا يتعرض لهم بسوء حتى يقضوا حاجتهم قال سبحانه : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) [التوبة/6] وأكد ذلك قائد المدرسة المحمدية في عدم التعرض بالسوء لمن حصل على عهد الأمان فقد روت أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ، فقَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ(أعطيته الأمان) فُلاَنَ بْنَ هُبَيْرَةَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ . الفئة الثالثة معاهدون من خارج حدود الدولة ولهم معاهدة سلام مع المسلمين فهؤلاء نظم التشريع الإسلامي فيهم الوفاء بالعهد والمسالمة ما أقاموا عليها وأكد القرآن الكريم هذا فقال تعالى : إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة/ 4] وحذر الرسول الكريم من الاعتداء على من حصل على عهد الأمان سواء داخل البلاد أو خارجها وتوعده بالعذاب من الله فقد روى البخارى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ« مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» والتسامح في الإسلام لا يعنى تمييع القضايا أو محو الشخصية والهوية بحيث يقبل المسلم أي منهج أو معتقد أو ثقافة تلفحا بمبدأ التسامح وإنما مفهوم التسامح كما أرساه الإسلام هو تبليغ رسالة الله إلى الناس كافة بالحكمة والموعظة الحسنة والدعوة بالتي هي أحسن ولين المعاشرة والرحمة والإحسان وقت السلم. وتتجلى عظمة التشريع الإسلامي في التوازن بين التسامح والردع بالقوة للدفاع عن الحقوق في تصنيفه للفئة الرابعة من غير المسلمين وهم المعتدون وهؤلاء وجب قتالهم والإغلاظ لهم و قطع العلاقات معهم عقابا لهم على اعتدائهم على المقدسات والأوطان قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة/123] لأن التسامح في هذه الحالة يعني قبول الاعتداء على الوطن والأهل والمال والعرض والدين وما نزل الإسلام إلا بحفظ هذه الأشياء للناس وهذا الردع بالقوة سياسة إسلامية تهدف إلى توفر الأمان والاستقرار للمجتمع الإنساني ضد مطامع القوة الشريرة . بالإضافة إلى هذا التقسم العبقري في سعة نظرة الإسلام إلى مخالفيه وتعددها فهناك مظاهر للتسامح التشريعي كثيرة منها إباحة الزواج من الكتابية، والنظام الذي وضعه التشريع الإسلامي للحرب ووضع حقوقا للأسير هذا بالإضافة إلى تسامح الرسول الكريم مع صحابته بل رفقه باليهود والنصارى الواقعين تحت حكمه على الرغم من أذيتهم له والتسامح مع أعدائه بالوفاء لهم بالعهد حال المعاهدة والمسالمة وحال الحرب على السواء، كل ذلك مما لا نستطيع التفصيل فيه في مقال واحد لكنه يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الرسالة المحمدية بما حوته من خصيصة التسامح وخصائص أخرى يمكنها النهوض برسالتها إلى البشرية لتقوم بدورها المفقود بعد تخليها عن مكان الصدارة والريادة الذي هو مكانها الطبيعي، لتحقق الخير للبشرية ولتشيع فيها المبادئ والأسس التي تمكنها من التعايش والتآلف . المزيد من مقالات إبراهيم فهمى