لم تكن المواجهات المذهبية التي شهدتها ولاية غرداية الجزائرية قبل أيام قليلة هي الاولي من نوعها بين سكانها العرب الشعابنة المنتمين للمذهب المالكي والأمازيغ البربر المنتمين للمذهب الأباضي، حيث تكررت مثل هذه المواجهات في السنوات الأخيرة، وخاصة في نهاية عام 2013 ، إلا أن المواجهات الأخيرة التي شهدتها هذه الولاية الصحراوية القابعة علي بعد 600 كيلومتر جنوب العاصمة كانت الآخطر من حيث عدد الضحايا، حيث سقط فيها 25 قتيلا وأصيب المئات، وأيضا من حيث نوعية الأسلحة الرشاشة المستخدمة، والإطلاق العشوائي للنيران، إضافة إلي أنها كادت تخرج عن السيطرة بنزول الآلاف من المنتمين إلي المذهبين إلي الشوارع في مشهد كان ينذر بالفوضي الشاملة، وبفتنة لا يعلم مداها إلا الله.
إلا أن أخطر ما اكتنف هذه المواجهات هو أنها تفجرت إثر إذاعة برنامج تليفزيوني لإحدي القنوات العربية حول المذهب الأباضي ، وكونه يمثل بعض الانحرافات عن صحيح العقيدة، وهو مذهب ينتشر في العديد من مناطق الجزائر، وكذلك في دول عربية أخري، وهو ماتزامن مع حملة غير مسبوقة علي شبكة النت ومواقع التواصل الاجتماعي، لتنفخ في نيران الفتنة، مما يثير تساولا محقا عن الدور السلبي ، إن لم يكن التحريضي الذي تلعبه بعض وسائل الإعلام والرسائل غير الواعية التي تبثها ، والتي قد ينجم عنها كوارث غير محسوبة في منطقة تتميز بتعدد أعراقها وإثنياتها ومذاهبها ، ولا ينقص أفرادها الحماس والحمية، التي تجعلهم يندفعون إلي المنافحة والزود عما يعتقدونه صوابا وجزءا لا يتجزأ من انتمائهم العقيدي والحضاري.
ورغم الخطورة البالغة لهذه الأزمة "الفتنة" إلا أنه يمكن القول أن التحرك السريع والفاعل من جانب القيادة الجزائرية وأركان الدولة، والإدارة السليمة لها قد مكنا من الاحتواء السريع لتداعياتها، ومنع امتدادها زمنيا أو تمددها مكانيا، لتنحصر في مدن القرارة وبعض المدن الأخري، وهو التحرك الذي تجسد في تكليف الرئيس بوتفليقة للجيش والجهات القضائية المسئولة بالتحرك فورا، للتصدي لكل من يحاول المساس بالبلاد واستقرارها، في إطار إرساء مقومات العدالة بكل صرامة وتحقيق كل ماهو ممكن لضمان السلم والأمن الأهلي.
وهو تكليف تبعه تحرك ميداني من جانب رئيس الحكومة عبد المالك سلال، الذي لم يتأخر عن النزول إلي مواقع الأحداث، لنقل رسالة تهدئة من الرئيس للسكان بشأن الإجراءات التي تم اتخاذها، بالتزامن مع نزول وانتشار الجيش في المدينة محل الاشتباكات، مما أسهم إلي حد كبير في السيطرة السريعة علي الأحداث.
ولاننسي في هذا السياق الدور الذي لعبته جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، التي أصدرت بيانا فوريا لتفادي نداءات ودعوات الفتنة، وكذلك تحركات بعض الأحزاب التي أثارت هذه المسألة وطرحتها علي النقاش في لقاءات جمعتها مع مؤسسة الرئاسة.
إذن يمكن القول أن هذه التحركات السريعة والواعية والمنسقة من جانب كافة أجهزة الدولة مكنت الجزائر من تجاوز هذه الأزمة، إلا أنه يظل مطلوبا المزيد من العمل والحذر إزاء الدور السلبي لبعض وسائل الإعلام، التي لاتدري وربما تدري أن بعض كلماتها بمثابة رصاصات آو بنزين يمكن أن يشعل نيران الفتنة، إضافة إلي ضرورة تنمية الوعي الجمعي بالابتعاد قدر الإمكان عن الخطابات الديماغوغية الشعبوية، التي تثير الغرائز وشهوة وروح التشفي والانتقام بين أبناء المجتمع الواحد.