تحتفل فرنسا، ويشاركها الاحتفال عدد من المؤسسات الثقافية فى مختلف أنحاء العالم، بمرور مائة عام على مولد واحد من أبرز كتاب ومفكرى النصف الثانى من القرن العشرين، وهو رولان بارت (1915 1980)، الذى يعد مع المفكر الفرنسى الجزائرى الأصل جاك دريدا (1930 2004)، والمفكر الفرنسى ميشيل فوكو (1926 1984)، روادا لحركة ما بعد الحداثة فى العالم، وكان ثلاثتهم مع آخرين من البنيويين البارزين فى فترة الستينيات، مثل كلود ليفى شتراوس، وجاك لاكان، وكريستيان ميتز، قد شكلوا تيارا جديدا فى دراسة علم الدلالات (السيميولوجيا) أثر بصورة كبيرة فى مجال النقد التحليلى للأعمال الأدبية والفنية، والظواهر الثقافية المعاصرة. ولأن بارت بكتاباته النقدية كان الأكثر تأثيرا إلى الدرجة التى اعتبر معها قائدا للثقافة الشعبية، كما أطلق عليه البعض، ويرجع ذلك إلى تناول ما يكاد يكون مجرد أحداث عادية، أو ظواهر اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية، أو مجرد صور تمر أمامنا بصورة عابرة فى حياتنا اليومية ليلقى عليها نظرة مختلفة تظهر لنا مفهوما جديدا لم يكن مألوفا لدينا من قبل، وبرؤية تتميز بحيوية ذهنية وتخيلية عالية، إن لم تكن جامحة أحيانا، تجعلنا نعيد النظر فيما يحيط بنا وفهمه فى نسق مختلف، وبصورة أكثر عمقا. سيتم الاحتفال بما يطلق عليه «سنة بارت فى فرنسا» فى المكتبة الوطنية الفرنسية فى باريس لمدة ثلاثة أشهر، بدأت فى شهر مايو الماضي، وتنتهى فى 26 من هذا الشهر (يوليو 2015)، ويشمل الاحتفال إصدار نصوص كتبها بارت ولم تنشر من قبل، بالإضافة إلى نشر مراسلاته، ومجموعة من الكتب الجديدة تتناول أفكاره وكتاباته وحياته، كما ستقدم المكتبة عددا من الندوات واللقاءات، وحلقات نقاش لأعماله، ومعرضا لمخطوطات كتبه وأوراقه الشخصية، وكذلك معرض لرسوماته التى تعرض للمرة الأولي، حيث إن المكتبة الوطنية الفرنسية هى الجهة المؤتمنة على أرشيف بارت الشخصى. وهكذا يطل رولان بارت فى مئويته على العالم، وعلى مصر وعاصمتها الثانية مدينة الإسكندرية،التى عمل بارت كأستاذ مساعد للأدب الفرنسى فى جامعتها خلال عامى 1949 و1950، ويذكر بارت فى الحوار المخصص له من سلسلة الحوارات التليفزيونية التى صورت تحت عنوان «أرشيفات القرن العشرين»: «خلال فترة إقامتى بالإسكندرية عام 1950، عرفت جريماس الذى كان يعمل مدرسا مثلى، وبفضله اقتربت من اللسانيات، كما عرفت ماتورى عن طريقه، ومن هنا اهتممت بعلم المفردات، أو بسوسيولجيا المفردات»، وفيما بعد وخلال فترة الستينيات من القرن الماضي، عد بارت والفرنسى الليتوانى الأصل الجيراداس جوليان جريماس (1917 1922)، الذى بدأ حياته الأكاديمية كمدرس فى المدرسة الداخلية الفرنسية الكاثوليكية للبنات بالإسكندرية، من ألمع الدلاليين (السيميولوجيين) الفرنسيين، لذا فقد يكون من المناسب، وكنوع من المشاركة فى الاحتفال بمئوية بارت، أن تقوم جامعة الإسكندرية بوضع لوحة تذكارية فى مكتبتها باسمه، وتخصص جزءا منها لمؤلفاته باللغة الفرنسية، وترجماتها إلى اللغتين الإنجليزية والعربية. أعود لبارت محاولا أن أقدم مدخلا لفهم أسلوبه فى تحليل وتفسير الظواهر المختلفة التى يتعرض لها خلال كتابه الأشهر والأكثر رواجا «أساطير» الصادر عام 1957، والذى يعده البعض عنوانا لمرحلته الفكرية الأولي. «أساطير» هو نقد ساخر للثقافة البورجوازية السائدة، محمل بفهم (سيميولوجى) يستخرج دلالات معينة ما يتعرض له، باعتباره الأسطورة نمطا ينتمى إلى «الكلام» أكثر مما ينتمى إلى اللغة، سواء كانت الأسطورة تنتقل عبر وسيط لغوي، أو وسيط آخر كصورة فوتوغرافية مثلا، ويتم تناولها من خلال ثلاث زوايا، أولاها: منتج الأسطورة كأن يكون صحفيا أو إعلاميا، وثانيتها: محلل الأسطورة، وثالثتها: مستهلك الأسطورة، ويعنى بالقارئ العادى المتلقى للرواية الصحفية، أو الصورة الفوتوغرافية. ولنبدأ بمثل يبدو أثيرا لديه، وهو اطلاعه الذى يتكرر فى مواضع مختلفة لبارت على صور صحفية، ينبهنا به على الأغلب إلى أن تأمل الصور العابرة المتدفقة فى طريقنا عبر الصحف وأجهزة الإعلام، ينبغى أن يتحول إلى عادة نمارسها فى حياتنا اليومية، أما غلاف »بارى ماتش« الذى أصبح شهيرا بفضل أساطير رولان بارت، فكان يصور شابا أسود يرتدى الملابس العسكرية الفرنسية، ويحيى العلم الفرنسى بألوانه الثلاثة، وما ترمى إليه هذه الصورة (الغلاف) هو معنى مستتر يقول إن فرنسا إمبراطورية عظيمة يقوم أبناؤها بخدمتها بإخلاص دون أى تمايز عنصري، ولا يوجد رد على منتقدى سياستها الاستعمارية أفضل من هذا الحماس الذى يبديه هذا الجندى الأسود فى خدمة مضطهديه المزعومين، ويرى بارت أن الجندى الأسود هنا قد حرم من تاريخه، وتحول إلى إيماءة، ولأنه توجد حاجة لوجوده كى تعطى الصورة التى تبدو بريئة، معنى مخالفا لذلك تماما، فيتم بتر نصفه وتنزع منه الذاكرة لا الوجود، وستبدو الصورة بأن الإمبراطورية الفرنسية واقع لا يمكن إنكاره، وأن هذا الشاب الأسود الطيب يؤدى التحية كأى جندى شاب فرنسى آخر، فثمة تماه يحدث بين تحية الشاب الأسود وتحية الجندى الفرنسي، وإيجاد أسطورة كهذه يقتضى التعامل مع صورة فقيرة ناقصة تم تنظيفها جيدا لتصبح معدة للتدليل على رسالة ما، فيمكن إضافة عدد آخر من الدوال إلى هذه الصورة، كجنرال فرنسى يضع نيشانا على كتف جندى سنغالى ذى ذراع واحدة، وكصورة لراهبة تمد يدها بكوب من الشاى إلى مريض عربى ملازم الفراش، وكصورة لمدرس أبيض البشرة يدرس لأطفال سود صغار يتابعونه باهتمام، فالصحافة كل يوم تثبت أن مخزون الدوال الأسطورية لا ينفد. وفى مقال بعنوان «المساحيق والمنظفات» كتبه بارت بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولى الأول للمنظفات فى باريس عام 1954، يستخلص من نتائجه أن المنظفات ذات طبيعة كيميائية كاوية، فهى تقتل الأوساخ، أما المساحيق فتطردها، فهى فى مخيلة «اومو» أو «برسيل» مثلا عدو ضعيف أسود ينسل هاربا من القماش النظيف الرقيق تحت تأثير المسحوق الذى يقوم بطرده لا بقتله، وبذلك فإن المساحيق تحافظ على النظام العام، ولا تقوم بشن حرب، إنها تطرد فحسب ولكنها لا تقتل، كما أن المنظفات الكيميائية تستخدم بصورة أكثر عنفا عندما تقوم النساء (بدعك) الملابس فى عملية الغسيل، بينما تكتفى المساحيق عند استخدامها بعصر الملابس فقط ونشرها، وتلغى عملية (الدعك) العنيفة هذه، وعندما تقول إعلانات «اومو» عن المسحوق بأنه يتغلغل فى عمق النسيج، ويطرد الأوساخ منه، فإنه ينبهنا للمرة الأولى بأن للقماش عمقا، وهو أمر يعظم من قيمته مستجيبا للمثيل الإنسانى الغامض فى جس القماش وتحسسه، أما كثافة الرغاوى فتعطى إحساسا بالرفاهية. ويتناول بارت تلك الأساطير التى تتشكل من الزيجات الشهيرة، فعندما اقترنت سيلفيا كربنتى ملكة جمال أوروبا لعام 1953 بصديق طفولتها الكهربائى ميشيل وارمبورج، تم تصوير صورة مختلفة للعش السعيد، فلقد كان بإمكان سيلفيا أن تسير فى طريق النجومية، وأن تصبح ممثلة سينمائية تربح المال الوفير، ولكنها أعرضت عن هذا المجد العابر وتزوجت وفاء لماضيها من صديق طفولتها الكهربائي، واستقرت معه فى شقة صغيرة من حجرتين ومطبخ يتناولان فيها إفطارهما ويذهبان إلى السينما، وتقدم هذه الزيجة حسب النموذج البورجوازى الصغير، على أن هذه هى السعادة، فبإمكان البورجوازية الصغيرة أن تفتخر بانضمام سيلفيا كربنتى إليها مثلما كانت الكنيسة تستمد القوة والخطوة بأن يرتدى أحد أفراد الأرستقراطية ثوب الرهبنة. إن ظاهرة الحب الأقوى من المجد تنعش الأوضاع الاجتماعية القائمة، فليس من الحكمة أن يخرج المرء عن وضعيته الاجتماعية، إنما من الأفضل أن يعود إليها. وتتواصل تحليلات بارت الثاقبة والمحملة بدلالات جديدة عميقة فى مجال الثقافة الشعبية باهتماماتها، عن وجه جريتا جاربو، ودور الملابس و (الإكسسوارات) فى رقصة (الستريبتيز) الفرنسية الشهيرة، ونموذج البروليتارى الفقير كما يقدمه شابلن فى فيلم «العصور الحديثة»، والمصارعة الحرة كعرض مسرحى مكتمل.. إلخ، وحتى تأملاته للصور الفوتوغرافية التى يخصص لها آخر كتاب صدر له فى حياته، وهو كتاب «الغرفة المضيئة» عام 1980، حيث تحمل الصورة الفوتوغرافية مرجعها معها، وتتحول إلى علامة تصل بها إلى مرتبة اللغة، ويقدم بارت كنموذج لذلك صورة كان قد قام بقصها من إحدى المجلات واحتفظ بها طويلا، تعرض سوقا للعبيد يقف فيها سيد العبيد بقبعته، بينما العبيد جالسون فى ملابس تكشف عوراتهم، وهى كصورة فوتوغرافية وليست رسما، تؤكد اليقين بأن ذلك قد وجد، وأنها مسألة واقع لم يكن المؤرخ هو الوسيط فى نقلها، وإنما الصورة هى ما يثبت حدوثها. كما أن البشر عندما يشعرون بأنهم مراقبون من قبل عدسة الكاميرا يتخذون لأنفسهم وضعية خاصة، فالصورة على حد قوله «توجد جسدى أو تميته وفقا لإرادتها الخاصة»، ويقدم مثلا لهذه القدرة القاتلة للصورة، حيث فقد بعض مناضلى «كوميونة باريس» (من 18 مارس وحتى 28 مايو 1871)، حياتهم لشغفهم بأخذ أوضاع للتصوير على المتاريس، منبهرين بالفوتوغرافيا التى كانت قد ظهرت حديثا، فحينما هزموا تعرف عليهم رجال تربير رئيس وزراء فرنسا الجديد، وقاموا بإطلاق النار عليهم جميعا تقريبا. هذه مجرد إطلالة سريعة لا تغنى عن قراءة رولان بارت قدر ما تحفز عليها، حيث إن هذه العقلية النافذة فى التحليل الدلالى للكلمة والصورة، تقدم لنا نموذجا قد يغير الكثير من رؤيتنا لما نشاهده أو نقرأه، وتجعلها رؤية أكثر جسارة وعمقا. ولكن أحيانا ما تنتابنى هواجس (بارتيه) إزاء عدد كبير من الصور التى أراها فى مصر، وأشك كثيرا أن النموذج التحليلى الدلالى الذى يقدمه بارت قادر على استيعابها، فكيف لمن تنبه إلى أن شغف ثوار كوميونة باريس بالتصوير قد أدى إلى مصرعهم أن يتفهم صور مظاهرات جماعة الإخوان المسلمين فى مصر كما تقدمها إحدى الفضائيات التى تصور المتظاهرين وقد أداروا ظهورهم للكاميرا بينما أداروا اللافتات تجاه الكاميرا حتى يمكن تصويرها، ولن يفهم أن هذه المظاهرات هى للتصوير فحسب(؟!). وكيف سيتسنى له أن يفهم صور أطول مائدة إفطار رمضانية تسجلها موسوعة «جينيس للأرقام القياسية»، وقد احتل محافظ الإسكندرية (الرايق) الذى أقامها أول المائدة مع زوجته وبعض المسئولين بالمحافظة ورجال الأعمال، بينما تدور معارك باستخدام الكراسى فى آخرها بعد أن تم الاستيلاء على وجبات الإفطار(؟!). وكيف سيتسنى له أن يفهم هذه الصورة المتداولة منذ أكثر من عام على مواقع شبكة التواصل الاجتماعى (الفيس بوك) لجمع من الناس يحيطون بأحد خبراء الأمن وهو يفكك قنبلة تم العثور عليها على جانب الطريق، وهو مشهد اعتدنا أن نرى صورا له رغم التحذيرات المتكررة من احتمال انفجار القنبلة فى مشاهدى هذه العملية، أما الجديد هذه المرة فهو أن أحد المحيطين بعملية التفكيك هذه قد وضع يديه على أذنيه سدا لهما حتى لا يسمع صوت الانفجار المتوقع، ولسان حاله يقول «أموت نعم.. ولكن دون أن أنزعج من صوت الانفجار». هل أصبح هذا حالنا متمثلا فى العديد من الصور المستغلقة على الفهم؟! وهل تفضح هذه الصور ومثيلاتها وضعا سيكولوجيا مركبا وصلنا إليه؟! أم نعتبرها ضربا من الجنون العارض، ونكفى على هذه الصور ماجورا؟!.