سعر الدولار عامل كام؟.. تابع الجديد في أسعار العملات اليوم 20 يونيو    القناة 12 الإسرائيلية: 67% من الإسرائيليين يعتقدون أن إسرائيل قادرة على الانتصار على حزب الله لو اندلعت الحرب    في هانوي.. انطلاق المباحثات الثنائية بين الرئيس الروسي ونظيره الفيتنامي    مقتل شخصين إثر حرائق الغابات في ولاية نيو مكسيكو الأمريكية    اجل.. تركي آل الشيخ ينعي مشجعتي الأهلي ويدعو أسرتيهم لأداء العمرة    فيلم "ولاد رزق 3" يتخطى 114 مليون جنيهًا منذ عرضه بالسينمات    أم طبخت ترابا وفتيات انتحرن، مسؤول أممي يكشف عن مآس يعيشها السودانيين بسبب الحرب    مبدأ قضائي باختصاص القضاء الإداري بنظر دعاوى التعويض عن الأخطاء    في ختام أسبوع العيد.. سعر الذهب اليوم الخميس 20 يونيو 2024 وعيار 21 الآن    النشرة الصباحية من «المصري اليوم»: سحب 4 أدوية من الأسواق.. الموت يخطف عروس المنيا.. حصيلة مرعبة في وفيات الحجاج المصريين.. سبب عدم خروج صلاح أمام غينيا بيساو.. والأرصاد تحذر من طقس اليوم    صحة قنا تكشف حصيلة مخالفات الأغذية والمشروبات المضبوطة خلال أيام العيد    عاجل:- وفاة العديد من الحجاج غير النظاميين خلال موسم الحج 1445ه    عاجل:- استقرار أسعار الحديد والأسمنت في مصر بعد عيد الأضحى    اسعار حفلات عمرو دياب في مراسي الساحل الشمالي    بعد تصريحات اللاعب| هل يرفض الأهلي استعارة «تريزيجيه» بسبب المطالب المادية؟    مصرع شخصين وإصابة 3 آخرين في حادث تصادم بكفر الشيخ    إلى أين تتجه التطورات على حدود إسرائيل الشمالية؟    تعرف على خريطة الكنائس الشرقيّة الكاثوليكية    سنتكوم تعلن تدمير مسيّرتين ووحدة قيادة تابعة للحوثيين في اليمن    حماس: تأكيد جديد من جهة أممية رفيعة على جرائم إسرائيل في غزة    الآلاف في رحاب «السيد البدوى» احتفالًا بعيد الأضحى    العطلة الطويلة جذبت الكثيرين إلى المصايف| أين قضى المصريون الإجازة؟    هيئة الداوء تحذر من 4 أدوية وتأمر بسحبها من الأسواق    أسرع مرض «قاتل» للإنسان.. كيف تحمي نفسك من بكتيريا آكلة اللحم؟    yemen exam.. رابط الاستعلام عن نتائج الصف التاسع اليمن 2024    إيقاف قيد نادي مودرن فيوتشر.. تعرف على التفاصيل    التخزين الخامس خلال أيام.. خبير يفجر مفاجأة بشأن سد النهضة    بعد بيان الأبيض.. اتحاد الكرة يبحث عن حكم أجنبي لإدارة قمة الأهلي والزمالك    وزير الداخلية السعودي: موسم الحج لم يشهد وقوع أي حوادث تمس أمن الحجيج    «آخرساعة» في سوق المدبح القديم بالسيدة زينب| «حلويات المدبح»    «إن كنتم تناسيتم ذلك أنا لم أنسى».. تعليق مثير من محمد عواد بعد إحالته للتحقيق    هل يسمع الموتى من يزورهم أو يسلِّم عليهم؟ دار الإفتاء تجيب    «المالية»: حوافز ضريبية وجمركية واستثمارية لتشجيع الإنتاج المحلي والتصدير    تشييع جثامين أم وبناتها الثلاث ضحايا حادث انقلاب سيارة في ترعة بالشرقية    "تاتو" هيفاء وهبي وميرهان حسين تستعرض جمالها.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حمدي الميرغني يوجه رسالة ل علي ربيع بعد حضوره مسرحية "ميمو"    تامر حسني يشعل حفله بكفر الشيخ رابع أيام عيد الأضحى (صور)    بعد نجاح زراعته في مصر.. هل الكاسافا هو البطاطا؟ الزراعة تجيب    «من أجل كايزر تشيفز».. بيرسي تاو يضع شرطًا مُثيرًا للرحيل عن الأهلي (تفاصيل)    تحت سمع وبصر النيابة العامة…تعذيب وصعق بالكهرباء في سجن برج العرب    معظم الحجاج المتوفين خلال موسم حج هذا العام من المخالفين    كندا تبدأ بتصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية    حظك اليوم| برج الحمل الخميس 20 يونيو.. «وجه تركيزك على التفاصيل»    وفاة الناقد الأدبي محمود عبدالوهاب    فرقة أعز الناس.. سارة جمال تغني "ألف ليلة وليلة" في "معكم منى الشاذلي"    تطورات جديدة| صدام في اتحاد الكرة بشأن مباراة القمة    وزير الرياضة ينعي مشجع نادي الزمالك    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 20 يونيو 2024 في البنوك    مشروبات صحية يجب تناولها عقب لحوم العيد (فيديو)    تعرف علي المبادرات التي أطلقتها الدولة المصرية لتدريب الشباب وتأهيلهم وتمكينهم    إحالة مديرى مستشفى "ساقلتة" و"أخميم" للتحقيق لتغيبهما عن العمل فى العيد    بخطوات سهلة.. طريقة عمل كفتة داود باشا    بعد انتهاء أعمال الحج.. علي جمعة يكشف عن آداب زيارة مقام النبي والمسجد النبوي    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج بكالوريوس الطب والجراحة (الشعبة الفرنسية) جامعة الإسكندرية    مايا مرسي تستقبل رئيس الوكالة الإسبانية للتعاون الإنمائي    ما هي علامات قبول الحج؟.. عالم أزهري يجيب    علي جمعة ينصح: أكثروا في أيام التشريق من الذكر بهذه الكلمات العشر    ما هي الأشهر الحرم وسبب تسميتها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأديب
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 09 - 2011

"ليست لي سيرة ذاتية" ، هذا ما يصرح به بارت. "أو، بمعني أصح، منذ كتبت أول سطر، لم أعد أري نفسي." غني بإمكانه، أن يستدعي، بل ويستدعي، طفولته ويحكي عن مراهقته، ولكن منذ ذلك الوقت، "يحدث كل شيء من خلال الكتابة" ((Le Grain de la voix . إن تأملاته الذكية، والمنتقصة من الذات تقدمه كمزيج من كتابات متفرقة، والتصريحات والقضايا، تنوع من المقاطع غير المستقرة بلا وحدة أو مركز: "إن الذات التي أكونها ليست موحَّدة" .إن "كتاب بارت بقلم بارت" يناوب بين رأيين. فمن جهة يشكو من أن "كتابة الذات" تهدد أو تزيح الذات عن طريق الروايات fictions. "إنني بسببٍ من استخدامي الحر للغة، لا أجد شيئاً أقارن نفسي به... إن الرمز يصبح - حرفياً- مباشراً؛ خطراً جوهرياً علي حياة الذات: أن تكتب عن نفسك يمكن أن تبدو فكرة طموحة؛ ولكنها أيضاً فكرة بسيطة شأنها شأن فكرة الانتحار . ولكن هذه المقاطع، من جهة اخري، تخلص لعدم وجود شيء خلف هذه الروايات. إن الذات بناء خطابي: "إن الذات مجرد أثر من آثار اللغة"، ذات أدبية . "ألا أعرف أن لا وجود للمرجع في حقل الذات؟... "أنا القصة التي تَحْدُث لنفسي" إن بارت بالنسبة لنفسه، كما هو بالنسبة لنا، هو تشكيلة من الكتابات؛ التي لا يمكن التخلص من تضاداتها أو تناقضاتها بتحديد أي الصيغ أو القضايا هي حقاً بارت - اللهم إلا إذا كان بارت نفسه بناءاً تشكَّل لتنظيم هذه الفقرات.
إن بارت أديبٌ بمعني أن حياته حياةُ كتابةً، مغامرة مع اللغة؛ ولكنه مع نهاية حياته كان قد أصبح يحتل دور الأديب بالمعني التقليدي. كان قد غدا تجسيداً "للقيم الأدبية": عشقاً للغة وخصوصاً العبارة المنفلتة أو الصورة الموحية الثرية، حساسية للإيحائية السيكلوجية للموضوعات والأحداث، اهتماماً بالمنتوجات الثقافة بشتي أنواعها؛ والتزاماً بأولوية بالحياة الذهنية. لم يكن بارت مجرد ناقد، وإنما شخصية أدبية، قدمت آراؤه حول القضايا الثقافية لمعاصريه اتجاهاً ثقافياً وجمالياً. وعندما تحدث إلي أحد المحررين عن الكسل - كانت إحدي مقابلاته الشخصية بعنوان "تحدي الكسل!"- قدم صيغاً ممتازة وغير تقليدية يغذيها منظور نظري، ذو تمييزات نافذة واهتمام بالقيم الروحية. لقد كتب بانتظام مقدمات لكتب جديدة أو كتالوجات للمعارض، وناقش مسائل الطعام، والذهاب إلي الأوبرا، والعزف علي البيانو، وتذكر الطفولة. ويدعي بارت في "الدرس" Leçon "أن أسطورة الكاتب الفرنسي العظيم، المستودع المقدس لكل القيم العليا، قد تحللت." وحل محلها نوع جديد "لم نعد نعرف عنه شيئاً - أو لا نعرف عنه شيئاً بعد- كيف نسميه: كاتباً؟ مثقفاً؟ كاتب مخطوطات scriptor؟ لقد اختفت الأستاذية علي أية حال. إن بارت، في هذا النمط الجديد يحقق خطته من خلال تخليه عن الأستاذية، مقترحاً "نزهات قصيرة": مقاطع تَسْتكشفُ،عبر اللغات النظرية لزمننا، خبرات عن التفكير والمعيشة.
ويُظهره آخرُ كتبه "الغرفة المضيئة" La Chamber claire في دور المعلق الثقافي. إنه يقرر، بعد أن يستبعد المعرفة التقنية ويؤكد بالتالي علي أنه يجلب إلي تأمله حول الصور الفوتوغرافية ثقافته الأدبية، وحساسيته، وخبرته الإنسانية، أن "يشتق كل الصور الفوتوغرافية" من صورة واحدة لا غير، هي صورة أمه، والتي تمثل له
"تحولها إلي ذاتها".إنه بطرحه لصلات الفوتوغرافيا بالعشق والموت، يستكشف ببلاغةٍ وحساسيةٍ استجاباتهِ لموت أمه حديث العهد: لأن ما فقدته ليس شخصاً (الأم)، وإنماً كائناً، ليس كائناً وإنما صفة ( quality روح): ليس ما لا يمكن الاستغناء عنه وإنما ما لا يُستعاض عنه. باستطاعتي أن أحيا بدون الأم (كما يحدث لنا جميعاً عاجلاً أم آجلاً)؛ ولكن ما أبقت عليه الحياة شيء غير قابل للوصف (بدون صفة) كلية ومطلقاً." إن الفوتوغرافيا، كما يَخْلُصْ، تقول "كان هذا" ؛ "إن جوهر الفوتوغرافيا هو التصديق علي ما تمثله"إن جاذبية هذا النموذج من الكتابة، الذي يجسد فيه بارت علي نحوٍ غير مُهَدِّد "الحكمة" أو "التبصر" الذي يمكن أن تنجزه حساسية أدبية، تبرز في المراجعة التي قامت بها مجلة نيوزويك، وهي المراجعة التي تثني علي النزعة الإنسانية الغنائية لهذا الكتاب العظيم": إن بارت يصطحب القارئ في رحلة غنائية منقولة ببراعة، لصميم حياته الخاصة، والوسط الذي أحبه، وسط يعبث دائماً ب "الواقع العصي للوضع الإنساني.
كيف وصل رولان بارت إلي هذه النقطة؟ إنه يضيف في كتاب "بارت بقلم بارت" آلية ً ويقترح مساراً:
تكوينات تفاعلية: معتقد Doxa (رأي سائد) يُطرح ، لا يُطاق؛ ولكي أحرر نفسي منه، أفترض تناقضاً؛ ثم يتضح عدم صلاحية هذا التناقض، يصبح تحجراً جديداً، يصبح هو ذاته معتقداً جديداً، ويكون علي أن أبحث عن تناقض أبعد.
دعنا نتتبع هذا المسار. عند مصدر العمل، إبهامٌ للعلاقات الإجتماعية، طبيعة زائفة. وتكون الدفعة الأولي إذن، هي ان تُعمي (ميثولوجيات) Mythologies؛ ثم عندما تجمد التعمية بالتكرار، يتعين إزاحتها: يحاول علم السيميولوجيا (الذي تم افتراضه حينئذ) أن يُحرِّك ، أن يحيي، أن يسلح الإيماءة السيميولوجية، أو يموضعها، بمنحها منهجاً؛ ويُعَوَّق هذا العِلم بدوره عبر ذخيرة كاملة من الصور. إن الغاية من علمٍ سيميولوجي تُستبدل بعلمٍ (يكون متجهماً في الغالب) للسيميولوجيين؛ ومن هنا، علي المرء ألا يفصل نفسه مطلقاً عن ذلك، يتوجب عليه أن يقدم إلي هذه الذخيرة من الصور العقلية نسيجَ الرغبة، مطالبَ الجسد: وهذا، إذن هو النص، نظرية النص. ولكن، مرة أخري، يواجه النص خطر الإصابة بالشلل: إنه يكرر نفسه، يُزوِّر نفسه في نصوص بلا بريق...إن النص ينزع إلي التحلل إلي ثرثرة أو هذر (بابل) إلي أين يذهب بعد ذلك؟
إنه يسعي ، في مرحلة أولي، إلي إصلاح العلامات: إن عبارة (prodeo Larvatus ( أتقدم مشيراً إلي قناعي) تتكرر (ثلاث مرات في "الدرجة صفر" وحده) بوصفها الشعار المثالي للأنشطة الدالة. إن علماً للعلامات يبدو هو الطريقة التي تجمع معاً ما يراه الخيوط الأكثر طرافة للبحث المعاصر: لم تعد البنيوية النفستحليلية، السيكلوجيا ، بعض الأنماط الجديدة للنقد الأدبي التي قدم باشلار أولي نماذجها، تهتم بالحقائق إلا بقدر ما يكون لها دلالة. والآن، إن افتراض دلالة يعني ان يكون لك مدخل إلي السيميولوجيا ولكن ما أن يتم تشييد برنامجٍ للسيميولوجيا، حتي تجعل استجابةُ بارت من عمله شيئاً من علمٍ مُرسل . إن اللغات الواصفة التي كان يسعي إلي تشييدها كانت تعامل الآن كمعطيات؛ لكي يفكك النظرية لجأ إلي الاستيلاء علي مصطلحات هذه اللغات، مُخَلِّصاً إياها تقريباً من بعض تمييزاتها المحدِّدة وحفزها للانحراف نحو علاقات أخري. إن النص، وهو أحد "مصطلحاته الأدبية"، أصبح دالاً علي موضوعٍ جَمُوح، منظورٍ لا نهاية له لعلاقات دالة. إن النص الذي نُسج من خطابات سابقة، ينتسب إلي الثقافة ككل. إن فكرة القارئ ترتبط بفكرة النص لكي يُشكلا زوجاً عصياً: إن بمقدور المرء أن يؤكد علي الدور الحيوي للقارئ ضد أي محاولة للسيطرة علي النص من خلال التحليل - لا يوجد معني أو بنية عدا ما ينتجه القارئ. ويستطيع المرء ، ضد أي محاولة لجعل القارئ موضوعاً لعلمٍ (سيكلوجي)، أن يؤكد علي امتلاك النصوص للموارد التي تزعزع أكثر الافتراضات المسبقة المستقرة للقراء، ولإحباط أكثر استراتيجياتهم سطوة.
إن أحد الملامح اللافتة لبيانات بارت حول الأدب منذ S/Z، هو الكيفية التي يمكن بها للقارئ والنص تحويل الأماكن بسهولة في القصص التي يرويها: إن قصة القارئ الذي يبني نصاً تنقلب إلي قصة للنص الذي يتلاعب بالقارئ. إنه يكتب في مدخل Texte théorie du" في Encyclopaedia universalis أن "النص ملك لكل إنسان" ، ولكنه يواصل بسرعة، "إن النص هو الذي يعمل بلا كلل، وليس الفنان أو المستهلك." وفي الصفحة التالية ينقلب إلي موقفه الأول: "إن نظرية النص تزيل كل الحدود المفروضة علي حرية القراءة (إجازة قراءة عمل من أعمال الماضي من وجهة نظر حديثة تماماً...)، ولكنها تصر أيضاً علي نحو كبير علي التماثل المنتج للقراءة والكتابة." إن الاحتفاء بالقارئ كمنتج للنص يضاهيه وصف النص باعتباه القوة المتحكمة في هذه المواجهات. وتكون النتيجة هي تركيز الانتباه علي هذا التفاعل والحيلولة دون تبني وجهة نظر يمكن أن تشجع البحث النظامي.
إن تحول كتابة بارت إلي الجسد، ولذَّات الحياة اليومية يبدو إزاحة دالة. لقد أصبح بارت - علي أقل تقدير- بفضل موضوعات ونموذج الكتابة الجديد لهذه المرحلة الجديدة، مقبولاً من جديد بالنسبة للطبقة البورجوازية التي كان قد ناصبها العداء من قبل. وتلاحظ أنيت لافير Annette Lavers أن الكلمات الجديدة "اللذة" ، "الفتنة" و "الحكمة" جعلت من الذكاء أقل تهديداً، وشجعت الموضوعات الجديدة - أحزان العشق، ذكريات الطفولة، التكريس الذهني ومشاهد الحياة الريفية - الجمهورَ الفرنسي علي اكتشافه ككاتب. من كان يتخيل أن الرولان بارت الذي نعي "موت المؤلف" سوف يقوم بالتدريس الآن في الكوليج دي فرانس ويتناول موضوعات مثل عادات المؤلفين الفرنسيين الكلاسيكيين (إرتداء بلزاك للعباءة ، كراسات فلوبير، حجرة بروست المبطنة بالفللين)، ويصف أعماله هو ليس من منطلق كونها إسهامات في هذا المشروع العام أو ذاك، وإنما بوصفها تجليات لرغبته الشخصية؟ ويمكن لنا أن نمضي أبعد من ذلك في وصف هذا العود الغريب: الاتجاهات التي تم رفضها من قبل تعاود الظهور في كتابته، ولكن في مكان آخر، علي مستوي مختلف. ولأنه يعلن اعتراضه علي كل الأنظمة، فإنه يشبه بغرابة التقليديين الأدبيين الذين رفضوا رولان بارت الصغير بازدراء بوصفه اختزاليا يفتقر إلي الحساسية. إنه يصرح في "الغرفة المضيئة" Le Chamber claire أن ما هو مؤكد بالنسبة لي "هو المقاومة المفرطة لأي نظام اختزالي" وينسي في غضون ذلك، فيما يبدو، الوظيفة الاستراتيجية للأنظمة للحيلولة بين المرء وارتداده إلي المسكوكات "الطبيعية" غير المدركة لثقافته.
إن بارت يلاحظ بطبيعة الحال عودته لتقديم موضوعات ومواقف يقدرها التقليد الثقافي الذي حاول تغييره في وقت من الأوقات ، ولكنه يري ذلك كانتهاك آخر، زعزعة لأرثوذكسية المثقفين. "ألا يمكن أن تكون إعادة تقديم مسحة من السنتامنتالية في ميدان الخطاب السياسي - الجنسي الذي تم اكتشافه وإدراكه وتحريره وسبره... هي الانتهاك النهائي؟ (Barthes par Barthers). إن بامكان المرء أن ينظر في الحقيقة إلي عمل بارت بوصفه خلقاً لمناخٍ له فيه أن يعيد من ثم تقديم ما هو تقليدي، كانتهاك طليعي، سوي أن هناك بعض مشكلات تعزز نزعة الشك حول الطبيعة الراديكالية لمرحلته الأخيرة.
أولاً، هناك السهولة التي تتسلل بها الطبيعة مرة أخري إلي كتابته: إن ما نجده هناك ببساطة، في هيئة الجسد أساساً وكذلك ك "مرجع عنيد" في التصوير الفوتوغرافي، هو السلطوي وما لا يُشك فيه. لقد كشف عمل بارت النقدي والتحليلي بشكل متكرر محاولات افتراض طبيعة تحت الثقافة وإيراد أرضية طبيعية لأفعال المرء وتأويلاته. ولكنه وقع في السنوات اللاحقة وعلي نحو متزايد، فريسة لما يبدو قانوناً للخطاب: عندما تفضح الطبيعة بوصفها ثقافة، وتستبعدها من مكان ما، فإنها تعاود الظهور في مكانٍ آخر.
ثانياً، يستفيد بارت من الجهود النظامية التي يتبرأ منها، ويمكن لنا أن نقبل هذه التبرؤات شاكرين إذا ما أبدي استعداداً أبعد للاعتراف بمكاسبه. إن نجاحه ككاتب ما كان ليحدث لو لم تكن تأملاته الوجيزة ترتبط عبر طرق شتي - عبر مفرداتها اللغوية، عبر موضوعاتها الصريحة - بالمشروعات النظامية التي صنعت شهرته. إن التأملات في "بارت بقلم بارت" استفزازية، تحديداً، لأن المصطلحات المألوفة كانت تستخدم الآن بطرق جديدة لتفكيك النظريات التي ساهمت قبل ذلك في بنائها. لقد كان عمل بارت ناقصاً علي الدوام: إنه يقدم المشروعات، الخطوط العامة، الرؤي. إنه يصبح مثيراً للغضب عندما يقدم علي عدم الاكتمال كفضيلة، كما في S/Z، حيث يعزز البحث الأبعد للشفرات تحليلاً بارتياً. إن رفضه للنظام في أعماله الأخيرة هو بالتأكيد مقاومةً للسلطة، ولكن يمكن تأويله أيضاً بوصفه خدمة للذات وعلامة علي الرضا عن النفس - كما لو أن بيانه عن الكسل بوصفه مقاومة للسلطة قد قاده إلي اتباع ما تمليه عليه ذاته: "هل تجرؤ علي الكسل!"
ثالثاً، تشجع كتابات بارت بشكل متزايد ما يبدو أسطورة قوية، أسطورة "الإعفاء من المعني". إنه يكتب في "بارت بقلم بارت" من الطبيعي ان يحلم بعالم معفي من المعني (كما يعفي المرء من الخدمة العسكرية). ولقد بدأ هذا مع "الكتابة في الدرجة صفر" الذي يتخيل "غياب أي علامةً، وبالتالي، غياب آلاف الإثباتات المتعلقة بهذا الحلم (ما يتعلق بنص الطليعة، باليابان، بالموسيقي، بالبيت الإسكندري*، إلخ) . الحلم يوجد دائماً، ليس باللامعني، ولكن بأشكالٍ فارغةٍ من المعني. إن لهذا، كفكرةٍ نقدية، دوراً استراتيجياً. ولكن بارت في أعماله اللاحقة يبدأ في تقديم ما يمكن اعتباره بسهولة إعادة إثبات الأفكار النكوصية ما قبل السيميولوجية. إن الصور الفوتوغرافية، كما يدعي، تمثلُ ببساطة ما كان: إنه يستدعي صورة عبدٍ "قُدِّمت فيها العبودية بدون توسُّط، وأُسِّست الواقعة بدون منهج". وهذا بالدقة دفع بالغيبة لصورةٍ صورةٍ فوتوغرافيةٍ أخري جري تحليلها في "ميثولوجيات" ، وهي صورة الجندي الأسود الذي يحيي العلم الفرنسي التي سارع بارت برفض ادعائها حول تمثيل غير مُوسَّط وأقام الدليل علي إندراجها ضمن الأنظمة الأيديولوجية للثقافة الفرنسية.
إن بارت يحس بوجود مشكلةٍ هنا. إن مقطع "الإعفاء من المعني" لافت للنظر بحيث يتعين وجود نسخة من هذا الحلم عند الرأي العام تحديداً، إن المعتقد Doxa أيضاً ليس له أي شغفٍ بالمعني... إنه يقاوم غزو المعني (الذي يتحمل المثقفون مسئوليته) بالعيني the concrete أو المشخص". ولكن ربما لم يكن هذا لافتاً للنظر بما يكفي: ربما كان هذا هو ذات الأسطورة في الحالتين، علي الرغم من التعبير البلاغي الذي تكتسبه في عودتها اللولبية في عمل بارت. إنه يجادل بأنه لا يكرر هذه الأسطورة: إنه لا يبحث عن شرطٍ سابقٍ للمعني وإنما يتخيل شرطاً وراء المعني (après sense): "إن علي المرء أن يعترض المعني الكلي، كما لو كان يعترض امتداداً لطريقٍ ، لكي يتمكن من تلطيفه، من إعفائه." وهذا الاختلاف مُلاحظ في معظم كتاباته حول الأدب، ولكنه حين يعود إلي الفوتوغرافيا يتخيلُ، ليس إفراغاً من المعني، أو إرباكاً للشفرات الثقافية، وإنما حالات توجد هناك فحسب، حالات سابقة علي المعني. إنه بتحديه لكل العمل الأكثر إقناعاً للمعني، يعيد إثبات الأسطورة التي علَّمنا مقاومتها. ويمكن لنا برغم ذلك ربما، ألا تصيبنا الدهشة من أن السيميولوجي الذي بيَّن لنا استحالة الهروب من المعني، يصبح الآن أكثر إصراراً علي البحث عن موقعٍ طبيعي يهرب من الشفرات الثقافية.
ومن بين الأشياء الكثيرة التي تعاود الظهور، ولكن في مكانٍ آخر، هو الأدب التقليدي للقرن التاسع عشر.لقد بدأ بارت مناصراً للأدب التجريبي- فلوبير ، كامي ، روب، جرييه- ولكن الأدب القابل للفهم، المريح الذي نحاه جانباً لفشله في التجريب مع اللغة أو اتخاذ موقف من الشفرات التي يتكئ عليها، عاد ليكون عشقه الأول، بوصفه الموضوع الرئيسي لمحاضراته في الكوليج دي فرانس. وربما أمكن تصور مشروعه كله بوصفه طريقة للتخلص من الوصاية الأكاديمية المفروضة علي أدب القرن التاسع عشر، حتي يمكن أن يُستعاد، ليس كموضوع للمعرفة أو الدراسة، وإنما كموضوع للذة، ومصدراً للانتهاك بدون سمو. إن كتابي S/Z و "لذة النص" اللذين يتخذان من أدب الطليعة نموذجاً ، يطوران ممارسة للقراءة يمكن أن تكشف عن شطحات، وتعقيدات وتقويضات بلزاك، وشاتوبريان وبروست. ويتخذ كتاب "مقاطع من خطاب عاشق" من الخطاب السنتامنتالي والعتيق لڤرتر، موضوعاً للاهتمام المعاصر. وليس هذا بالانجاز المتواضع، وما جعله ممكناً هو المناقشات النظرية التي رفعت قبضة النقد التقليدي عن الأدب. إن استشهاداً بليغاً من "الدرس الافتتاحي" Leçon يجدر إيراده بلغته، يوضح:
إن القيم القديمة لم تعد مُتناقلة، لم تعد متداولة، لم تعد تمارس تأثيراً؛ لقد نقض الأدب قداسته، وباتت المؤسسات عاجزة عن الدفاع عنه وفرضه بوصفه النموذج الضمني للإنسان. والأمر، إذا شئت ، لا يكمن في التدمير الذي لحق بالأدب؛ وإنما بالأحري في كونه لم يعد محمياً: إذن هذه هي لحظة التحرك إلي هناك. إن السيميولوجيا الأدبية، إذا جاز القول، هي تلك الرحلة التي تجعلنا نحط الرحال علي بلدٍ يخلو من التخلف؛ لا وجود هناك لا للملائكة ولا للتنانين لحمايته. ويمكن أن يقع بصرنا، دون انحرافٍ، علي أشياء قديمة ومحببة، يكون مدلولها مجرداً، عفي عليه الزمان. إنها لحظة، هي في ذات الوقت، منحطة ونبوئية، لحظة لرؤيوية هادئة، لحظة تاريخية لأقصي لذةٍ ممكنة.
لا وجود لمشروع وحيد، وإنما تتابع من المشروعات المتباينة، هو القادر علي أن يقدم قابلية فهم هذه اللحظة الأغرب، عندما يعاود الظهور، ما كان قد نيل من سمعته؛ إن هذه الكتابات المتباينة وحدها هي التي يمكنها أن تخلق مثل إمكانات اللذة هاته، إمكانات الفهم والتجديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.