الحسنة الوحيدة في مسلسل «حارة اليهود» أنه لم ينمط شخصية اليهودي، فهو أخنف بخيل، يتحدث بطريقة، تكشف خبثه، هذا ما رأيناه في السينما، والأعمال الدرامية، وعندما يعرض أحد الكتاب لتاريخ اليهود، فإنه يتناول بعض الشخصيات الفنية: ليلى مراد وراقية إبراهيم ونجمة إبراهيم ونجوى سالم وتوجو مزراحي وغيرهم، وينسى آخرين، لمجرد أنهم لم يحوزوا شهرة هؤلاء، كما أنه يتجاهل إعلان بعضهم إسلامه. هذا مدخل يصلح للحديث عن يهودي مصري، لا يعرفه كثيرون، هو «شحاتة هارون» المحامي الذي توفي عن 81 عاما، دون أن يعرف له وطنا آخر، برغم ما تعرض له من تنكيل واعتقالات في مصر الملكية والناصرية والساداتية، كان يهوديا مصريا حتى آخر عمره، وظل يصف «إسرائيل» بأنها: «خرافة ضد التاريخ وضد قانون الطبيعة». «شحاتة هارون» أسس في مطلع شبابه «الرابطة الإسرائيلية للكفاح ضد الصهيونية» هو نفسه الذي عارض «اتفاقية كامب ديفيد» لأنها «اتفاقية سلام أمريكية بشروط الصهيونية الحاكمة في إسرائيل» وعندما زار «إيجال يادين» نائب رئيس الوزراء الصهيوني القاهرة عام 1979 ذهب إليه في المعبد اليهودي، ليقول له: «إنني كمصري أرى أن المعاهدة مهينة لكرامة الشعب المصري». وعندما اتهمه «موسى صبري» بالجاسوسية استغلت بعض الصحف الأجنبية ذلك، لتصفه بالمضطهد، ومنها «اللوموند» الفرنسية، فكتب إليهم مقالا جاء فيه: «أنا قادر على الدفاع عن نفسي لأني قادر على شرح وضعي في وطني جيدا» وعندما رزق ببناته الثلاث أطلق عليهن أسماء غير طائفية: منى ونادية وماجدة، فهو إفراز الجين المصري المتحضر، عندما رأى أبوه أن تعلمه في مدرسة كاثوليكية، لا يتيح له التعرف إلى دينه، أتى إليه في البيت بحاخام يعلمه أصول ديانته، وحين لاحظ ضعفه في اللغة العربية، أحضر له أزهريا يعلمه قواعد النحو والصرف. كان طبيعيا أن يقول «شحاتة هارون» في كتابه «يهودي في القاهرة» إن «الديانات الثلاث قد أثرت بشكل أو بآخر في تكويني» وكان طبيعيا أن تقول الابنة ماجدة هارون – رئيس الطائفة اليهودية حاليا - في حوار أجري معها: «أنا ابنة شحاتة هارون اليساري وأحد مؤسسي حزب التجمع، لدي بنتان إحداهما مسلمة والأخرى مسيحية، حيث تزوجت من مسلم، وزوجي الحالي مسيحي، فيعتبر بيتي هو البيت الوحيد الذي يحتفل بالأديان الثلاثة. في الخمسينيات كان شحاتة هارون مخيرا بين التنازل عن جنسيته وعلاج ابنته الكبرى «منى» بسفرها إلى باريس، فاختار مصريته، مضحيا بعلاج ابنته، التي ماتت بالفعل، هنا ينبغي أن نقارن بين تلك اللحظات العصيبة التي عاشها الأب شحاتة هارون، وانحيازه للوطن، وبين اختيار «محمد سلطان» الإخواني ابن الإخواني صلاح سلطان، الذي تنازل عن جنسيته، لتصدر السلطات المصرية عنه عفوا، واستدعى ذلك منه أن يقبل تراب الوطن الأمريكي، الذي لم يعرف غيره، فعلاقته بمصر بدأت بعودته من أمريكا عقب ثورة يناير. آخر المواقف الوطنية التي نسجلها لشحاتة هارون، حين طالب في وصيته بألا يمشي في جنازته إسرائيلي، وهذا ما فعلته ابنتاه، فقد رفضتا أن يصلي عليه السفير الإسرائيلي في القاهرة، وانتظرت جثته خمسة أيام حتى تستقدم الأسرة حاخاما فرنسيا، وآخر الأزمات التي تعرض لها وجثته لم تدفن بعد، حين أرادت الأسرة نشر نعيه في «الأهرام» فقد كانت صيغة النعي غريبة بعض الشيء على العاملين بصفحة الوفيات، لكن النعي نشر، وجاء فيه: « لكل إنسان أكثر من هوية، وأنا إنسان مصري حين يضطهد المصريون، أسود حين يضطهد السود، يهودي حين يضطهد اليهود، فلسطيني حين يضطهد الفلسطينيون» هنا نفهم رسالته للشاعر الفلسطيني محمود درويش، حين قرر أن يغادر حيفا، ليعيش في القاهرة، فقد كتب إليه: «تحية من القاهرة، صخرتي التي لن أبيعها باللآلئ، حبيبتي التي لن أهجرها، أنت وأنا الأمل، لو عدت أنت إلى حيفا، وصمدت أنا في القاهرة». هذا هو شحاتة هارون الذي لا تعرفه السينما والأعمال الدرامية!