قد نكتشف مع مرور الأيام وتصطدمنا حقيقة أن «ناس كتيرة اتغيرت». هكذا نقول أو هكذا نسمع فى رحلة حياتنا. وهذه العبارة تحديدا تكررت كثيرا فى الفترة الماضية. الا أن عبارة أخرى اعتراضية تأتى لتذكر لنا وتنبهنا:»نعم تمر الأيام ومعها يتكشف لنا أصل البشر.. وتبان وجوههم الحقيقية». أى «ان الناس مش بيتغيروا مع مرور الزمن بقدر ما بيكشفوا حقيقتهم». فى كل الأحوال قد تفاجئنا الصدمة وقد نشعر بخيبة أمل وقد نلعن أيضا الزمن الذى خدعنا أولا .. ثم «كشف لنا المستور». وهذا المسلسل الإنسانى مستمر. التحدى الأكبر فى حياة الإنسان كان وسيظل دائما «ماذا عن وجهك الحقيقي؟» وهل أنت «فى سلام معه»؟ أم انك «تتصارع معه» أو «لا تقبله كما هو» و»تريد أن تتبرأ منه؟» أو ربما «تخفيه بقناع أو أقنعة عديدة؟». ويأتى الكاتب الروسى أنطون تشيخوف ليصدمنا بكلماته (لعلنا نتنبه ونفوق) قائلا:»لا يرتقى الإنسان إلا عندما يلمس بيده حقيقة الحياة التافهة التى يعيشها». أما الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران فله قلقه وله صدقه عندما يكتب «ليس التقدم بتحسين ما كان بل بالسير نحو ما سيكون» ولا يتردد فى القول: «أنا برىء ممن يتوهم الثرثرة معرفة والصمت جهالة والتصنع فنا».. ويضيف «يقولون لي: اذا رأيت عبدا نائما فلا تنبهه لعله يحلم بحريته. وأقول لهم: اذا رأيت عبدا نائما نبهته وحدثته عن الحرية». وهذه المشاعر المتأججة داخل عقل الإنسان ومنها تحديدا البهجة والحزن والغضب والخوف والقرف هى بطلات وأبطال الفيلم الأمريكى الجديد «Inside Out». وهذا التوصيف يعنى «ما بالداخل فى الخارج». وهو فيلم تحريك ليس فقط للصغار بل للكبار أيضا. والفيلم من انتاج «بيكسار» / «ديزني» ومدته ساعة و35 دقيقة ويحظى بإقبال جماهيرى كبير واهتمام اعلامى عظيم. وتدور مشاهده وأحداثه فى دماغ طفلة اسمها «رايلي» تبلغ من العمر 11 عاما انتقلت مع والدتها ووالدها من مينسوتا الى سان فرنسيسكو وبالتالى حياتها تبدلت عما كانت عليه وعما اعتادته وعشقته. ومع التغيير تضاربت هذه المشاعر الخمسة المجسدة فى هذا الفيلم وانعكست على علاقتها مع والدها ووالدتها ومع المدرسة وكل من كان معها. وطوال الفيلم نتابع حوارات ونقاشات «مجسدة فى شخصيات»(بأصوات نجوم فى التمثيل) وأحداث تقع داخل عقل «رايلي». وكيف أن الحزن والبهجة معا يحاولان فى نهاية المطاف إسعاد الطفلة. الفيلم سعى لتنفيده وإخراجه الفنان «بيت دوكتر» عندما عاش وعايش حزن ابنته وهى فى ال11 من عمرها. وقد استعان بإخصائيين نفسيين وأطباء مخ وأعصاب من أجل تحقيق ما راوده من رغبة فى معرفة ماذا كان يدور وقتها داخل دماغ ابنته وأن يجد حلا أوعلاجا لحزنها. وبمشاهدة الفيلم الممتع والشيق (وأقولها بملء فمى) التقيت وجها لوجه مع مشاعرنا الكامنة فى أنفسنا وأيضا تعارفت أكثر على ما يحدث بداخلنا من حركة مشاعر خصوصا أنها تجسدت بأشكال وألوان مبهرة أمامى على الشاشة .كما أن الحوار الداخلى الذى يدور داخل أنفسنا رأيته وسمعته من خلال الفيلم. نعم، مشاعرنا التى تتصارع وتتصادم وأحيانا تتنافس وتتعارك من أجل فرض سيطرة «شعور ما» ولو لفترة قصيرة. ما نراه ونشعر به خلال متابعتنا للأحداث والمواقف فى الفيلم هو أن كل شعور من هذه المشاعر المتباينة فى نهاية المطاف يتجاور ويتعامل مع الشعور الآخر. وأن هناك دائما (أو يجب أن يكون) نوعا من المواءمة والتأقلم والرغبة فى الابحار معا وسط الأمواج المتلاطمة للحياة والسعى للوصول بالشخص الى بر الأمان. كما أن «هذا الفيلم يقدم فهما أو مفهوما جديدا للحزن» (كما كتب اثنان من علماء النفس المشاركين فى إعداد الفيلم) اذ علينا «أن نحتضن الحزن وأن ندعه يتفكك ويتكشف لنا. وعلينا أيضا أن نتعامل بصبر وتأن مع صراعات طفلة لم تصل بعد لسن المراهقة» وأن «الحزن سوف يطهر وينقى ماذا تم فقده (الطفولة) وسوف يحرك الأسرة أيضا نحو ما يمكن اكتسابه.. نحو أسس لحياة وذوات جديدة لكل من الأطفال والآباء على السواء». ولا شك أن مشاغل الحياة أو همومها (كما نحب أن نقول) تجرفنا غالبا فى طريقها بلا رحمة وبالطبع لاتترك لنا أى فرصة لالتقاط الأنفاس. وقد لا نجد الوقت المناسب أو المتاح لعمل «اللى نفسنا فيه» (أو هكذا نبرر ونقول). وبالتالى «تتسرب الحياة بأيامها ولياليها» من بين أيدينا. ولكن لا بد من التذكير هنا بأننا طالما أدركنا هذه الحقيقة المرة «إحنا أحسن من غيرنا» وهناك بالتأكيد فرصة لصد هذا الانجراف الى «دوامة ومتاهات الحياة اليومية» وهذا التجريف المتواصل لروح الابتكار ونشوة الابداع ورغبة الابتعاد عن السأم واليأس.اذن الأمر الأهم والمطلب الملح هو إيجاد لحظات ودقائق وساعات (ليه لأ) لكى تلتفت فيها لنفسك وتلتقط أنفاسك و«تعمل اللى انت عايزه ونفسك فيه». ويذكرنا المبدع العزيز خيرى شلبي: «أى رجل يريد النجاح لا بد أن يتحصن ضد السأم! يطيل باله على كل شئ! ومتى تفهمه يزول السأم تلقائيا.. يذوب فى محاولات التفهم». هكذا كان تعامله مع حياته أو «المخرج» (بفتح الميم) أو «الوصفة» أو «الروشتة» مع نجيب محفوظ وما اسماه فى حياته ب «نشارة الحياة». وقد فسرها أديبنا العظيم قائلا: «أنا لم تكن ظروفى سهلة أو ميسرة كما تتصور، فقد كنت موظفا أذهب إلى عملى فى المواعيد، وكان دخلى كله يعتمد على راتبى ولا شىء سواه، ولكننى مع ذلك كتبت بانتظام ودقة وأقمت حياتى الأدبية على ما يمكن أن أسميه باسم «نشارة الحياة» نصف ساعة من هنا ونصف ساعة من هناك أجمعهما على بعضهما البعض، وألتقطهما من زحام الدنيا لأقيم حياتى الأدبية وأستمر فيها، هكذا جمعت «نشارة الخشب» المتاحة لى وصنعت منها كل ما أريد.» وبالتأكيد لا بد هنا من إلقاء التحية وتقديم التقدير والإعراب عن الإعجاب للمعلم العظيم الذى ينبه « أن تجمع المتاح لتصنع منه وبه ما تريد». وهنا أذكر أيضا «طبعا ياما فيه ناس مش عارفه تعمل حاجة بالخشب نفسه مش نشارته». وقد كتب الناقد رجاء النقاش وهو يحكى هذه الحكاية فى حياة محفوظ:«.. والنشارة كما هو معروف لنا جميعا هى ما يتبقى من الخشب بعد قطعه وإعداده للاستخدام، وفى العادة تتحول هذه النشارة إلى سلة المهملات ولكن ما فعله نجيب محفوظ لم يهمل هذه «النشارة» بل جمعها فى صبر ودأب، وجعل منها أدبا عظيما وإنسانًا لا يقل عن الأديب فى عظمته ومستواه». ويذكرنا النقاش وينبهنا فى تفسيره وشرحه بأن «نشارة الحياة» .. «هى الوقت الضائع الذى لا تهتم به، والفضائل الصغيرة التى قد لا تلفت الأنظار، ولكن هذه «النشارة» يمكن أن تصنع شيئا جميلا لو أننا التفتنا إليها واستفدنا منها، وصبرنا على تحويلها إلى قوة تساعدنا على تحقيق ما نحلم به من أهداف». ويجب أن أقر وأعترف هنا بأننى لا أشك ولو للحظة واحدة بأن والدتى (رحمها الله) كانت أستاذة فى استثمار «نشارة الحياة»، ومن خلالها استطاعت أن تفعل الكثير وأنجزت ونجحت وفرحت وكللت جهودها فى تحقيق أمنياتها سواء تلك المرتبطة بنا نحن أولادها الخمسة أو بها هى شخصيا. فهى التى كانت «تخطف» دقائق من هنا أو ساعات من هناك لتعطى معانى أكبر لحياتنا وحياتها. وأنا متأكد بأن لكل منا حكاياته الخاصة به مع الوالدة و»نشارة الحياة» فى حياتها. لذلك حاول من ناحيتك فى هذه الأيام من التأمل والالتفات والتمهل أن تتذكر حواديت الأم مع نشارة الحياة (وطبعا دى متعة لا مثيل لها) ومعها ستعرف من جديد وتتبين الحكمة التى تبنتها الوالدة والأهم انها طبقتها فى حياتها وفى تدبير نشارة حياتها. وبعد أن تتذكر كل هذا أذكرها بالخير واشكرها وأحكِ حياتها و«نشارتها» «للى حواليك ولولادك وأحفادك كمان». وطبعا «إحنا كلنا عايزين نستفيد من حكاية النشارة دى ونعرف قيمتها ..وقيمة كل فتفوتة فى حياتنا» وقيمة «أن تجمع المتاح لتصنع منه ما تريد». ولا تنسى أبدا أن الحياة تفاصيل .. ولولا التفاصيل ما كانت الحياة .. وهذا بالطبع لمن يعنيه الأمر!. لقد تم وصف مطاردة الحلم فى حياتنا بأنها «الاحتفاظ بعشق أبدى والسعى للقاء». يعنى المهم أن تخطف ساعة من هنا أو ساعة من هناك وهمك الأكبر أن تصل الى ما كنت تحلم به وتريد تحقيقه. وما أكثر الأسباب والظروف التى نتحجج بها أو نلجأ إليها لكى نبرر ترددنا أو تلكؤنا تجاه ما يمكن إنجازه وتحقيقه. المطلوب منك ببساطة هو أنك أمام كل ما تواجهه فى حياتك ألا تنس أبدا فلسفة ومفهوم وعبقرية «نشارة الحياة». وأن تتبناها وتشركها معك فى حياتك وأن تشحن بها بطارية حياتك وتدفع نفسك للأمام .. وتواصل مشوارك.