الدواعش أكثروا من البغى والفساد فى الأرض دون رادع، حتى الآن، ولا يروى ظمأهم سوى الدم الغزير، وقطع الرؤوس، وينتشون عندما يعم الخوف، مثلما هو حادث، منذ «الجمعة الدامية» التى شهدت هجمات إرهابية متزامنة فى ثلاث قارات دفعة واحدة، ويتلذذون بتعذيب الخصوم والمخالفين بأحط وأبشع الوسائل السادية، يفعلون كل هذا وأكثر باسم الإسلام ويزعمون زورا وبهتانا أنهم يعلون شأنه ويرفعون رايته، ويجاهدون لاستعادة زمن الخلافة الجميل!!. المؤلم والمخزى معا أن رقعة انتشارهم وجرائمهم تتسع مع التحاق مئات المخدوعين والمغيبين بصفوفهم، ومعهم نفر من المغامرين الراغبين فى خوض مغامرات ومعايشة أجواء ألف ليلة وليلة بمناطق الخطر والقتال لكى يظفروا بحفنة دولارات، وافراغ ما بداخلهم من شحنات عنف وكراهية للحياة ومباهجها، وبعضهم مريض بداء السلطة وما يرتبط بها من مزايا وعطايا وسبايا. وبما أن القوى الدولية والاقليمية فشلت فى ترويض الدواعش واستئصال شأفتهم بالقوة وأصبحنا بلا حيلة أمام زحفهم وتمددهم السرطانى، فإن اللحظة تتطلب استدعاء واستحضارا فوريا لعلم وتراث شخصيات إسلامية واجهت الغلو والتطرف بشجاعة، علنا نعثر فيها على الوصفة الملائمة للقضاء نهائيا على داعش وأمثالها. ومن بين من تنطبق عليهم الشروط والمواصفات الشيخ محمد الغزالى الذى كان حقا من بين المجددين للدين الحنيف والعاملين على ايضاح وبيان مقاصده السمحة، وسوء تفسير المسلمين لكتاب الله وسنة رسوله الكريم وما يتمخض عنها من تطرف وتبرير للعنف وانتهاك الحرمات، فقد وردت العبارة التالية فى واحد من كتبه القيمة: «تحت شعار الإسلام يتوج أناس ليس لهم فقه وليس لديهم تربية، يغترون بقراءات وشقشقات واعتراضات على الأوضاع ويرون أن الدين كله لديهم، وأن البدع والكفر كله عند معارضيهم فيستبيحون دماءهم وأموالهم وكراماتهم، ما هذا بإسلام». التشخيص ينطبق على الدواعش ومن يحذو حذوهم من خوارج وتتار الألفية الثالثة، فهم بلا علم وبدون تربية قويمة رغم قدوم معظمهم من بلدان أوروبية معروفة بجودة أنظمتها التعليمية وتقدمها الاجتماعى والاقتصادى، ومعرفتهم بالدين محصورة فى القشور وما يقوله أميرهم، فإرادتهم مسلوبة ولا يعملون عقولهم، ويخاصمون العلم والمنطق والتطور. واقرأ معى عبارة أخرى للغزالى توضح زيف هؤلاء ورؤيتهم إن كانت لهم رؤية أصلا : «كل تدين يجافى العلم ويخاصم الفكر ويرفض عقد صلح مع الحياة هو تدين فقد صلاحيته للحياة، ويضيف أن مهمة الدين إذا رأى عاثرا أن يعينه على النهوض وليس الاجهاز عليه». إن داعش تربى أطفالها منذ نعومة أظافرهم على حمل البنادق، والسكاكين، واتقان مهارات الذبح والتقاط الصور مع رؤوس الضحايا، والقيام بعمليات انتحارية، فهل تنتظر اى خير يأتى من ناحيتهم عندما يكبرون؟ بكل تأكيد.. لا، فهم جهزوا كآلات تدمير وتخريب للحياة وللحضارة الانسانية والأمثلة الدالة على ذلك كثيرة طوال العام المنصرم. ما قاله الراحل الجليل يحمل فى طياته وصفة سهلة لهزيمة داعش أول خيط فيها مقاومة مفهوم احتكار الدين، فداعش ومن قبلها جماعات كالإخوان والجماعة الإسلامية تعتبر نفسها الوكيل الحصرى للدين، وتطلب من المريدين والمخلصين لها الالتزام الحرفى بما تحدده وتفتى به، وأن يتركوا عقولهم فى المنزل مع أن الدين كما هو معلوم بالضرورة يحض ويحث على إعمال العقل، وعدم ازهاق الأرواح عشوائيا بسبب ودون سبب. والبداية الصحيحة من التنشئة وتربية الصغار الذين يجب افهامهم أنه لا يوجد كهنوت فى الإسلام، وأن ما يصدر عن المشايخ قابل للأخذ والرد فى حدود الأدب والوقار، وأن أبواب الاجتهاد مفتوحة حتى قيام الساعة، وأن التدين السليم ينبع من الجوهر وليس بالألفاظ والمظاهر، فنحن نضيع وقتا ثمينا فى الأمور المتصلة بتقصير الثوب واطالته، وارتداء الجلباب أم البدلة، واطلاق اللحية من عدمه، وكذلك فى التشبث بفتاوى وآراء لم تعد مناسبة لعصرنا، وأن الدين لا يعادى الحياة، وأن الحياة ليست كلها مفاسد، وأن انتقاد ما يقوله بعض العلماء والمشايخ ليس خروجا على الدين ولا زندقة. ما سبق معروف ومتداول فيما بيننا لكن هل ننفذه على أرض الواقع؟ بكل أسف لا نطبقه عمليا فكثيرون يكتفون بترديده بالألسنة وحسب دون أن يتوغل وينفذ لعمق النفس والعقل، ثم اننا وبدون وعى نأتى أحيانا بافعال تضاهى ما تفعله داعش التى ننتقد ونهاجم وحشيتها وساديتها، مثل الزعم بتطبيق حد الحرابة الذى يصر بعضنا على الاندفاع نحوه ولا نجد من يؤثمه ويجرمه، لأن ترك الحبل على الغارب سيحول المجتمع لغابة ترتع فيها الوحوش الكاسرة بلا رقيب ولا حسيب. كما اننا فى احتياج عاجل لحوار إسلامى إسلامى الغرض منه الاتفاق على مجموعة من الثوابت، وازالة أي لبس فى احكام ومفاهيم يستغلها الإرهابيون والقتلة فى ايجاد مبرر دينى لفظائعهم. فنحن نكتفى بمؤتمرات وورش عمل متناثرة عن الإرهاب ومواجهة المتطرفين وأفكارهم الشاذة سرعان ماتنفض بدون تأثير، لكننا لا نرى جهدا جماعيا يقوده الأزهر مثلا لعقد مؤتمر جامع شامل يشارك فيه علماء الإسلام الثقات غير المحسوبين على تيار معين والبعيدين عن الهوى وتنفيذ أجندات دول وأجهزة مخابرات خارجية ، وأن يتحاوروا بصراحة ووضوح عن مواضع عيوب المسلمين وجوانب الخلل فى سلوكياتهم وفهمهم للدين، وأن يتفقوا على قلب رجل واحد على وضع حد لقضايا خلافية عديدة، وأن نقر بتحملنا مسئولية كبرى فى تشويه صورة الإسلام بتصرفات اناس يدينون به، حينئذ سيتبدل الحال تماما وسنقضى على داعش وأخواتها بسرعة البرق ولن يتبقى منها سوى ذكرى جرائمها ومجازرها المسطورة فى كتب التاريخ كعبرة ومثال للأجيال القادمة. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي