لا يستطيع باحث في الآداب والفنون والعلوم, التي صنعت النهضة المصرية الحديثة منذ القرن التاسع عشر, أن يتجاهل المجلات الثقافية, أو لا يتخذها مرجعا أساسيا لأبحاثه, لما تتضمنه هذه المجلات من مادة غنية بالمعارف, تعكس هذه النهضة في أبعادها التاريخية والجغرافية والفكرية, في قضاياها الرئيسية, وترسم مراحل تطورها وحوافز تجديدها, حين يتيسر لها علي أرض الواقع المناخ الملائم للتطور والتجديد. ولهذا فإن قراء هذه المجلات عادة ما يحتفظون بها مجلدة, ولا يفرطون فيها لباعة الروبابيكيا, كما يحدث عادة بالنسبة للدوريات الصحفية الأخري التي يتخلص منها أصحابها أولا بأول, لأنها, بغلبة الأخبار عليها, لا تضيف إليهم شيئا إلا حشو الرءوس, وإن وجد أحيانا في هذه الدوريات الإخبارية من الإعلام والبيان والحكمة التي تثري التجربة الإنسانية ما يفوق أحيانا هذه المجلات الثقافية. وأكثر ما تتميز به هذه المجلات أنها ليست في خفة الصحف السيارة أو المجلات العامة, ولا في ثقل الكتب المتخصصة التي تهتم بالحواشي والتعليقات, ولا تقتصر علي المتن أو النص. ولا أظن أن ثمة حاجة إلي القول إن من يملك أعدادا من هذه المجلات الثقافية, سواء كانت أسبوعية أو شهرية أو فصلية, إنما يملك ثروة ثقافية, اقتناها بقروش قليلة. ويذكر كثير من الكتاب والمثقفين في سيرهم الذاتية وحواراتهم أنهم نشأوا علي صفحات هذه المجلات, واكتسبوا منها وعيهم وذائقتهم الجمالية التي يصوغها الانفتاح علي الثقافات, وكلما كانت النشأة صحيحة أعطت نتائج طيبة. ومع هذا فلم تنل هذه المجلات الثقافية التي صدرت في القاهرة والعواصم العربية ما تستحقه من دراسات نقدية تتناول سبب صدورها, وملامحها الفكرية والفنية, وتأثيرها في الأجيال القارئة, بما قدمته في أعدادها من أسماء وثمار ناضجة في التأليف والترجمة, أو قصرت عن تقديمه في ضوء العصر الذي تنتمي إليه. وقد تكون دلالة العجز والقصور علي الكشف والتعبير الموضوعي عن أبنية المجتمع أهم للباحثين من دلاله الانجاز والتحقق. وباستثناء عدة كتب عامة صدرت عن مجلات' روضة المدارس', و' الهلال', و' المقتطف', و'الكاتب المصري', أو عقد عدد من الندوات في القاهرة والكويت وبيروت, فليس في المكتبة العربية دراسات عن مجلات عديدة أخري مثل: ' الجامعة'(1899-1903),' الزهور'(19131910),' العصور'(19301927),' المجلة الجديدة'(19411929),' أبوللو'(1932-1933),' الرسالة'(19531933),' الثقافة'(19531939),' البعث'(19461944),' الفجر الجديد'(19461945),' الكتاب'(19531945),' الأديب المصري'(1950),' الثقافة الجديدة'(19581945),' المجلة'(19711957),' الشهر'(19611958),' الأدب'(19661958),' الكاتب'(19741964),' الطليعة'(19771965),' جاليري68'(19711968), وعشرات غيرها من المجلات التي صنعت كيان الأمة الحضاري. ولاشك أن أي دراسة نقدية لهذا التراث العظيم من المجلات الثقافية يجب أن تناقش افتتاحياتها, خاصة افتتاحية العدد الأول, للوقوف علي توجهها الأيديولوجي بين التقليد والتجديد, ومقارنتها بالمجلات المماثلة, المعاصرة لها والسابقة عليها, وما تعرض له بعضها من توقف أو تعثر بفعل الرقابة علي المطبوعات, أو اعتقال النيابة لكتابها, وتفتيش منازلهم بتهم مناهضة سياسة الدولة. كما ينبغي لهذه الدراسات أن تعرف بكتاب المجلة, وبمنهجها في تقديم مادتها, وبأسلوبها في التبويب والإخراج, والي أي مدي كان استجابتها للتحديث وروح العلم والتكنولوجيا, ومدي تأثيرها في الحياة العامة, وفي التكوين النفسي للأفراد, تحديدا لمكانتها في تاريخنا الثقافي, وفي صراعنا الوطني والطبقي. ومن المعروف أن عددا كبيرا من رواد الثقافة العربية المعاصرة ومن أعلامها البارزين علي امتداد القرن التاسع عشر والعشرين, خطوا خطواتهم الأولي في الكتابة والنشر في المجلات, ثم اتجه من اتجه منهم إلي جمع ما نشر في كتب, أو إلي تأليف الكتب. والذي يراجع مؤلفات طه حسين والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم والزيات وأحمد أمين ولويس عوض ومحمد مندور وغيرهم, سيجد أن جزءا كبيرا منها كان حصاد ما نشر من مقالات متفرقة في هذه المجلات. وهذا دليل قاطع علي الأهمية البالغة للمجلات الثقافية التي أرجو أن تجد من مؤسسات الدولة واتحاد الناشرين من يعيد طبع ما يتماشي منها مع أيامنا الحاضرة, وإصدار مجلات جديدة تعبر عن واقعنا الثوري الذي نعيش فيه بعد الخامس والعشرين من يناير.