يتميز الإسلام بكونه دعوة كونية وعالمية تتجاوز الأعراق والأجناس والثقافات والحدود، وهذا البعد الكونى والإنسانى والعالمى فى الدعوة الإسلامية، مكن الإسلام من الانتشار والتأقلم مع الثقافات المختلفة غير العربية، فى الهند وآسيا جنوبها ووسطها، كما تمكنت هذه الثقافات بدورها من إدماج الإسلام فى طبقاتها، ولم يبد الإسلام كغريب فى هذه الثقافات، بل كجزء منها، لأنه لم يناصبها العداء، بل استوعبها واحتواها ولم يدخل فى صراع معها وكذلك فعلت هذه الثقافات. ومن هذا المنطلق فإن الدعوة لتجديد الخطاب الدينى ليست مطلبا فحسب للبلدان العربية والإسلامية، بل مطلب كونى وعالمى بدرجة أو بأخري، فالحاجة الداخلية «للتجديد» يقابلها الحاجة الخارجية برغم تفاوت رؤى التجديد ومنطلقاته، ففى الداخل يستهدف التجديد محاصرة الظاهرة الإرهابية والحول دونها ودون تطويع النصوص الدينية لتبرير أهدافها أما الحاجة الخارجية فتتمثل فى إحداث التواؤم بين الإسلام وبين الحداثة والديمقراطية، والبحث عن الإسلام المعتدل الذى يتعايش مع الليبرالية وحقوق الإنسان، وغنى عن القول أن ثمة تداخلا ظاهرا بين الحاجة الداخلية للتجديد والحاجة الخارجية وأهدافهما، وان ثمة قاسما مشتركا أعظم بين أهداف تجديد الخطاب الدينى محليا وعالميا يتمثل فى تجريم الإرهاب وتعايش الأديان والثقافات واندماج العالم الإسلامى فى المجتمع الحديث العالمى والتواؤم مع المتغيرات والمستجدات. ليس فى مقدور العالم الإسلامى تحمل الانعزال والانغلاق عن العالم الحديث، وذلك لأسباب من بينها أن العالم الإسلامى لا يزال حتى الآن يدفع ثمن فاتورة الانعزال والانغلاق الذى عانى منه طيلة قرون، وكان سببا أو على الأقل من بين أسباب التخلف الثقافى والجمود ووقف الاجتهاد، أما السبب الثانى فيتمثل فى أن الإسلام فى أوج ازدهار الحضارة الإسلامية لم يتوقف عن الاتصال بالحضارات والثقافات الأخرى الفارسية واليونانية والهندية وغيرهما من الحضارات القديمة، بل بادر العالم الإسلامى والمسلمون إلى النقل والترجمة عن مختلف اللغات وعرفت أوروبا أرسطو من خلال الترجمة العربية، ومن ثم فالانفتاح والتواصل مع العالم الحديث لا يعدو أن يكون استئنافا لما انقطع من تقاليد الحضارة الإسلامية، وتأكيدا لعالمية الإسلام وكونيته وبعثا لقدرته على استيعاب الجديد والتأقلم مع المتغيرات. فى تقديرى المتواضع أن عملية تجديد الخطاب الدينى ليست مجرد عملية واحدة نقوم بها وينتهى الأمر، بل هى عملية مستمرة، أو هكذا ينبغى أن تكون، بمعنى أنها ينبغى أن تلازم مراحل التطور التى يمر بها العالم الإسلامى والعالم العربي، وتستجيب للحاجات المتجددة والمتطورة لهذه البلدان، وتعالج مشكلات التطور السياسى والثقافي، التى تعترض مسار هذه البلدان نحو التحرر العقلى والثقافى والمعرفى لتحقيق الحرية وتدعيم الدولة المدنية والديمقراطية وتنقية المجال العام من أى سلطة تنتسب للدين، أو تحكم باسمه، والمراد من ذلك تبديد الوهم بأن عملية تجديد هذا الخطاب يمكن أن تتم فى مرحلة واحدة وإلى الأبد، بل هى عملية مستمرة تلازم وجودنا ذاته وتطوره، وينبغى أن تدرج كبند ثابت على جدول أعمال المجتمعات الإسلامية. من ناحية أخرى فإن تجديد الخطاب الدينى يرتبط أول ما يرتبط بمعركة تأويل النصوص الدينية المقدسة؛ ذلك أن المعارك حول تأويل النص الدينى قد حكمت إلى حد كبير مسار الإسلام وتاريخه منذ البدايات وحتى الآن، فالتأويل والتأويل المضاد هما اللذان شكلا الحركية الإسلامية ومحور الصراع على احتكار الإسلام والسلطة الزمنية فى آن واحد، فخلف هذا التأويل انطوت مصالح عصبية وطائفية ومذهبية وسياسية وقبلية، اهتمت جميعها بتأويل النص الدينى ووجدت فى هذا التأويل مسوغا شرعيا لتبرير المطامح والمطامع فى السلطة والشرعية الدينية على حد سواء. معركة تأويل النص الدينى ينبغى أن تسترشد بحدين أساسيين أولهما بشرية التأويل وإنسانيته، أى أن التأويل قام به بشر وفق مصالحهم وقيمهم وانتماءاتهم وثقافاتهم، فلا يحظى بأية قداسة أو أيه إطلاق، فالقداسة والإطلاق للنص الدينى فقط، وثانيهما أن هذا التأويل ارتبط بظروف عصره وبحاجات وقضايا المسلمين فى هذه الآونة، وأن هذه الظروف والحاجات والقضايا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وأن العصر الذى نعيش فيه له قضاياه وحاجاته ومشكلاته الخاصة والمختلفة عن هذه العصور، والتى تتطلب تأويلا جديدا يتلاءم والظروف الراهنة الداخلية والخارجية والمحلية والعالمية، وأن هذا التأويل يسترشد بمصالح المسلمين وغير المسلمين فى عالم مترابط طوعا أو كرها. هذا التأويل المنشود يستهدف نزع الشرعية والغطاء الدينى عن الجماعات الإرهابية، وإظهار تناقص ممارساتها وانتهاكاتها مع جوهر الإسلام وقيمه، إن فى الداخل وإن فى الخارج وبيان مدى شذوذها عن مبادئ الضمير الإسلامى والعالمى والحقوق التى كفلتها الشرائع الدينية والوضعية للإنسان، بصرف النظر عن جنسه وعرقه وديانته وثقافته، وتأكيد شرعية التطلع للدولة المدنية المستقرة والمساواة بين مواطنيها، وتأكيد مبادئ الإنسانية المشتركة التى ينتمى إليها البشر جميعاً. هذا التأويل المنشود لن يؤتى ثماره إلا إذا استرشد بالقيم العقلانية، وإعلاء قيمة العقل والحرية والمساواة بين البشر وترسيخ ثقافة جديدة، تبتعد عن الإقصاء والاستبعاد والتمييز، وهى القيم التى افتقدها التأويل المغرض للنص الدينى من الجماعات الإرهابية والعنيفة، التى احتكرت الحديث باسم الإسلام واستغلت ضعف المؤسسة الدينية الرسمية وغيابها طيلة العقود الماضية. وأخيرا وليس آخرا فإن التعويل على أن تجديد الخطاب الدينى فى حد ذاته كفيل بتحقيق هذه الأهداف والقيم مجتمعة يجانب الصواب، ذلك أن تجديد هذا الخطاب هو مجرد خطوة وإن كانت مهمة فى سياق تجديد الخطاب الثقافى والمعرفى والعلمى العام فى المجتمع، فالخطاب الدينى هو مجرد نسق فرعى للخطاب العام، وليس منعزلا ولا محصورا، عن أنساق الخطاب الأخرى فى المجتمع، بل يرتبط ارتباطا وثيقا به، وتخلف الخطاب الدينى ينبغى أن ينظر إليه باعتباره تخلفا للخطاب العام، ومن ثم فإن البحث عن منطلقات ومبادئ وقيم جديدة لتطوير الخطاب المعرفى العام، يخلق المناخ الملائم لإنجاز مهمة تجديد الخطاب الدينى وجعل هذه المهمة فى حيز الممكن. إن مهمة تجديد الخطاب الدينى تتضمن أسئلة وإشكاليات قد تفوق الحصر ابتداء بالمقصود بالخطاب والتجديد فى آن معاً، وليس انتهاء بعلاقة هذا الخطاب بالمجتمع وبالخطاب العام والسؤال المتعلق بالأهداف التى ينبغى إنجازها من تجديد هذا الخطاب، ذلك أن تحديد هذه الأهداف يساعد فى تحديد الوسائل والأدوات لتحقيقها. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد