قد يبدو هذا العنوان ملتبسًا عند القارئ؛ فهو قد يتساءل: هل يا ترى الكاتب يتحدث هنا عن «همزة الوصل» في اللغة العربية، أم أنه يتحدث عن المعنى المجازي لتعبير «همزة الوصل»، الذي نستخدمه عادةً في لغة الواقع الاجتماعي والسياسي للتعبير عن أهمية وجود خيط من الاتصال، حينما تنقطع بنا السبُل في مجال العلاقات الاجتماعية والسياسية؟ وأغلب الظن أن ذهن القارئ العام سوف ينصرف إلى هذا المعنى الأخير؛ إذ يبدو له من غير المعقول أن يقصد الكاتب الحديث عن ضياع أو افتقاد «همزة الوصل» باعتباره مقدمة لضياع هويتنا؛ ففي ذلك كثير من المبالغة، وربما من الشطط! هل فرغنا من كل مشاكلنا الكبرى وكل ما يتهدد وجودنا وهويتنا، حتى يختزل الكاتب القضية في تلك المسألة الهامشية الصغيرة؟! قد تدور في ذهن القارئ مثل هذه التساؤلات في برهة من الزمان، عندما يطالع عنوان هذا المقال. ولكني أقول له صراحةً: إنني أقصد تلك المسألة التي قد تراها هامشية صغيرة، بينما أراها دالة وكبيرة؛ ببساطة لأن «كثير النار من مستصغر الشرر» كما تقول الحكمة الخالدة، فما بالك إذا كان في هذا الأمر كثير من الشرر، بل من الشرور. وإليكم الشواهد والبراهين على ما أقول: حجتي الأساسية أن «همزة الوصل» هي من أبسط قواعد النحو في اللغة العربية التي ينبغي أن يفرغ الطالب منها في مراحل التعليم الأولية؛ وبالتالي فلا تتوقعن ممن يجهلها من المتعلمين في مدارسنا وجامعاتنا أن يعرفوا شيئًا جديرًا بالذكر عن اللغة العربية. وإذا كانت اللغة العربية هي الموطن الأساسي لهويتنا باعتبارها وعاء الفكر والثقافة والتراث، بل الدين نفسه؛ فإن ضياعها يعني ضياع هويتنا؛ لأن من يفقد لغة موطنه يفقد هويته، بل يفقد دينه، كما سبق أن أوضحنا ذلك في مقال سابق عن «اللغة والهوية» فى هذا المكان. تلك حجتي باختصار، وهي حجة في صورة قياس منطقي مركَّب. ويبقى الآن أن نستدعي الشواهد عليها. وربما كان من اللائق أن نشير أولاً باختصار إلى القواعد الأساسية لهمزة الوصل، ليتبين القارئ فداحة الشواهد على الأخطاء التي تقع فيها: همزة الوصل- بخلاف همزة القَطع- هي التي لا تَظْهَر خطَّا ولا تُنْطَق لفظًا (إلا إذا جاءت في أول الكلام، فإنها حينئذ تظهرُ في النطق فحسب، ولكنها لا تظهر أيضًا في الكتابة)، ومواضعها هي: -أول الفعل الماضي الخماسي وأمره ومصدره، مثل: اعتاد- اعْتَدْ- اعتياد، اقتصَدَ- اقْتصِدْ- اقتصاد. فإذا كان الفعل رباعيًا في حرف من حروفه تضعيف، اعتُبِرَ خماسيًا وجرت عليه القاعدة نفسها، مثل: اتَّجَه- اتجاه. -أول الفعل الماضي السداسي وأمره ومصدره، مثل: استخرجَ، واستشَارَ، واستعِن- استعانة، واستقِم- استقامة. ومن ذلك قولنا: ما خاب من استخَار، ولا نَدِم من استشَار. -أمر الثلاثي، مثل: انصَحْ، اذكُرْ، اشكُرْ. ومن ذلك قوله تعالى: «فاذكُروني أذكُرْكمْ واشكُرُوا لي ولا تَكْفُرُون»، وقوله: «يأَيها الذينَ آمنوا اركَعُوا واسْجُدُوا واعبُدُوا ربَّكُم وافعَلُوا الخَيْرَ لعلَّكُمْ تُفْلِحُون». ومع بساطة هذه القواعد، فإننا نرى كثيرًا من أساتذة الجامعات لا يدرون بها، فما بالك بغيرهم من الصحفيين والكتاب والإعلاميين والمسئولين، وغيرهم من المتعلمين. أعرف ذلك من خلال الرسائل الجامعية التي أناقشها، وبحوث ترقية الأساتذة التي أقوم بتحكيمها. ويحضرني في هذا الصدد حالة من المضحكات المبكيات بكلية الآداب بجامعة القاهرة، إذ أن اللافتة النحاسية لقسم الاجتماع مكتوبة هكذا: «قسم الاجتماع»، وقد نبهت مرارًا على هذا الخطأ الشنيع الذي يعرفه بعض الأساتذة بالتأكيد، ومع ذلك لم يحرك أحد ساكنًا. وخطورة الأمر هنا أن طلبة قسم الاجتماع وغيرهم يشاهدون تلك اللافتة يوميًا، فيستقر في أذهانهم هذا الخطأ على أنه الصواب، وهم عندما يكتبون كلمات، مثل «اجتماع» و«اجتماعية» التي تتكرر عشرات المرات في بحوثهم أو كراسات الإجابة عن الامتحان، سوف يكتبونها بالأَلِف المهموزة (كتابةً ونطقًا) تيمنًا بتلك اللافتة التي ارتضاها أساتذتهم! وعندما يتجول الطلبة في أروقة الجامعة الأم سوف يجدون لافتات أخرى ترسخ هذا الخطأ، مثل لافتة تقول: «ساحة انتظار السيارات» أو «ممنوع الإنتظار على هذا الجانب» (بالهمزة الظاهرة مرةً أخرى). وإذا ما فرغوا من الجامعة صادفتهم مثل هذه اللافتات في طريقهم إلى بيوتهم، فإن شاهدوا التليفزيون وجدوا الخطأ نفسه يتكرر في إعلانات من قبيل: «إتصل الآن»، بل في البيانات التي تصدر مرئية ومسموعة عن مؤسسات رسمية أو حكومية. هذا مجرد مثال على ضياع لغتنا، وعلى تدني مستوى التعليم ذاته. فالطلبة يدرسون مستوى معينا من قواعد اللغة في مرحلة معينة من تعليمهم قبل الجامعي، وهم يدرسونها بمناهج عقيمة تقوم على حفظ القواعد، دون تعليمهم أن تكون سلامة اللغة جارية على لسانهم وفيما يكتبون ويطالعون؛ فإذا انتقلوا إلى مستوى التعليم الجامعي وجدوا المناهج نفسها في تدريس اللغة، ولم يجدوا في السياق الثقافي الاجتماعي العام ما يعينهم على إكسابهم سلامة اللغة أو الحد الأدنى من هذه السلامة. بل إننا أصبحنا نجد أغلب شباب الجامعات يتخلون عن لغتهم العربية في رسائلهم الإلكترونية ومحادثاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بل يشوهون تلك اللغة عمدًا بكتابة صوتيات حروفها بالحروف الإنجليزية، وبإحلال رموز أو أرقام معينة متعارف عليها عندهم محل الحرف العربي! فهل يمكن أن نتوقع من مثل هؤلاء أن يستمتعوا بقصيدة من تراثهم الشعري القديم أو الحديث، وهل يمكن بالتالي أن يتذوقوا أغنية من شعر الفصحى الذي تغنى به عبد الوهاب أو تغنت به أم كلثوم، وهل يمكنهم حتى أن يتذوقوا الكلمة أو الصورة الشعرية الحلوة البليغة في شعر العامية! أذكر انني عندما كنت مرشحًا لعمادة كلية الآداب بجامعة القاهرة أن تقدمت ببرنامج يتضمن- فيما يتضمن- مشروعًا لإصلاح تلك الحالة المتدنية للغة العربية في جامعاتنا، على أن يبدأ هذا المشروع من كليات الآداب ليمتد بعد ذلك إلى غيرها من الكليات. الفكرة الأساسية في هذا المشروع هي ألا يُسمَح لأي من الطلبة بالتخرج من أي قسم من الأقسام إلا بعد أن يجتاز اختبارًا موحدًا يقيس مستوى التمكن من اللغة العربية، على أن يتم تصميم هذا الاختبار على غرار اختبار «التويفل» في اللغة الإنجليزية الذي يقيس موضوعيًا سلامة اللغة العامة في سائر نواحيها، وعلى أن يتم تصميم البرامج الخاصة بتدريس اللغة العربية بحيث تؤهل الطلبة لاجتياز هذا الاختبار. ولا شك أن الدرجة المطلوبة للنجاح سوف تتفاوت فيما بين الأقسام، بحيث تصل إلى أعلاها في الأقسام التي تدرس اللغات وآدابها، كما أنها سوف تكون أعلى في مستوى الكليات النظرية منها في مستوى الكليات العملية (حينما يتم تطبيق هذا المشروع لاحقًا على هذه الكليات الأخيرة). كانت هذه مجرد أحلام، ولكنها أحلام ممكنة. وكم تمنيت أن يتبنى أي مسئول جامعي فكرتي هذه، حتى إذا نسبها لنفسه؛ فالإصلاح ليس مستحيلاً إذا خلصت النوايا وصح العزم منا، مهما كان الطريق إلى هذا الإصلاح يتطلب كثيرًا من الجهد والإجراءات، لكي تتحول الفكرة أو المشروع إلى واقع. أقول هذا كي لا نجد بيننا في المستقبل أساتذة ومدرسين جامعيين يخطئون في الإملاء ولا يستطيعون كتابة فقرة سليمة أو- على الأقل- غير مرتبكة لغويًا؛ فمثل هؤلاء هم الذين سيتخرج على أياديهم من الجامعات المعلمين في المدارس، والصحفيين والإعلاميين بوجه عام، والمحامين وغيرهم من العاملين في سائر المجالات... أقول هذا قبل أن تضيع اللغة وتضيع معها الهوية.