فى بداية حوارى مع الفقيه الجليل الدكتور سعد الدين الهلالى، الذى استمر لما يقرب من ساعة بمنزله، خاطبته بقولى «أستاذنا الكبير»، فجاء رده كالتالى: «أشكركم على هذه الثقة، لكننى أتمنى أن تسحب لفظ الكبير فأنا فقط أستاذ الفقه المقارن، وأعتقد أن اعطاء انسان لقبا أكبر من حجمه يكون مدعاة للغرور، والظن أنه مرجعية، والحقيقة أننا كلنا طلبة علم، ومهما بلغ الواحد منا من العلم فإنه يشعر بأن ما يجهله أكثر مما يعرفه». كان يمكن لى بالطبع اعتبار أن هذه الكلمات هى من باب «تواضع العلماء» وحسب، لكننى بعد تأمل أفكار الأستاذ، الذى نراه بالفعل كبيرا، والتى عبر عنها فى هذا الحوار، وجدت أنها كلمات تعكس منهج تفكير وحياة لدى الرجل، لا مجرد تواضع، فهو يرفض الوصاية الدينية، ومرجعية الأشخاص، ويخاطب كل «شيخ» بحسم قائلا: «اياك أن تظن أن اجتهادك صواب مطلق.. نحن مجتهدون بفكرنا البشرى.. ماحدش فينا يعرف حكم ربنا الحقيقى». وفى «خلاصة حالمة» لكلماته، يقول لى.. «عارف؟ اذا علمنا الناس الآراء المختلفة فى الفقه حيكون الشعب المصرى كله فقيه». فى مستهل الحوار.. قلت: تجديد الخطاب الدينى هو المطروح على الساحة الآن، وان كنت أميل الى أن يكون المصطلح هو تجديد الفكر الدينى.. كيف ترى العوائق فى هذا الطريق؟ هى عقبة وحيدة ولكنها أساسية أمام تطوير أو تجديد الخطاب أو الفكر الدينى، هى عقبة كؤود، وقد قلت....(يصمت لثوان ثم يواصل)... قلت لجهات معنية كبيرة ان «هؤلاء ماشيين بالذراع». من هؤلاء؟ الأوصياء الدينيون.. حيث يزعم المرء منهم أنه يعرف مراد الله فى أرضه، ويخاطب الناس على هذا الأساس، وهذا فيه تجرؤ على الله عز وجل، فمن هذا المخلوق الذى يعرف مراد الله؟.. «قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء»، وعندما تسأل أحدهم فى مسألة ما مثل فوائد البنوك أو النقاب أو حلق اللحية، لا يقدم لك الآراء الفقهية المختلفة التى تعلمها، لكنه يقدم اختياره هو من بينها على أنه هو الدين، ويطارد من اختار غير هذا الرأى، ويؤسفنى أن أكثر الذين يقدمون الخطاب الدينى لا يتحلون بالأمانة والصدق فى نقل العلم، ولا أتحدث هنا عن الصدق أو الأمانة فى تعاملهم الانسانى بشكل عام، فإذا كان قد قرأ رأيين فقهيين أو تفسيرين للآية فلماذا لا يعلم الناس الرأيين أو التفسيرين معا؟ ويتساءل الدكتور الهلالى بغضب: لماذا يتهم الشيخ الناس بالغباء والأمية ويقول اننى أريد أن أريحهم، أو أنا خايف يفهموا غلط؟.. لا، هو يريد أن يسيطر عليهم بهذا الزعم الكاذب بأنه يعطيهم «البونبوناية» الأخيرة، ويقول لهم هذا حلال أو حرام. أنت بهذا نصبت نفسك وصيا دينيا، «خيركم من تعلم العلم وعلمه»، لماذا لا تعلم الناس؟ واياك أن تظن أن اجتهادك هو صواب مطلق. انت عمرك ما تعرف مراد ربنا، انت ناقل للعلم، واذا ربنا أكرمك وأصبحت مجتهدا، وعرفت تستنبط رأياً «هنيئا لك»، لكن لازم تقدم لى الرأى ده باسمك.. اوعى تقدمه باسم ربنا. ويضيف قائلا: فى 2011 و2012 كان السلفيون يسيطرون على الجو الاعلامى فى الخطاب الدينى. كانوا يشعرون بهذا ولا يزالون. والقرضاوى عندما يقول فتوى معينة فهو يعلم أنه سيتبعها مليون شخص، لأنه عارف ازاى عمل للناس غسيل مخ، وكأنه وكيل ربنا فى الأرض، والخطاب الدينى كان وصل الى هذه المرحلة. والخلاصة هى أنه ماحدش فينا يعرف حكم ربنا الحقيقى، نحن مجتهدون بفكرنا البشرى. ثم يقول لى الدكتور الهلالى: عارف؟ اذا علمنا الناس الآراء المختلفة فى الفقه حيكون الشعب المصرى كله فقيه. قلت: نعم لأن العقول ستعمل. أتدرى لماذا؟ لأمرين.. أولا: الانسان عندما يعرف الرأيين سيختار منهما فتتكون شخصيته.. وثانيا: انه عندما يعرف الرأيين سيأتى بالرأى الثالث بمفرده.. اذن خليت الكل مجتهدين.. لكن أصحاب الخطاب الدينى الوصائى مش عايزين حد يفكر وكأنهم يقولون للناس ناموا انتم بس واسألونا واحنا موجودين. ده أكل عيش. الخطاب الدينى تحول الى أكل عيش. وأنا عايزه يبقى رسالة علمية.. ومن هذا الباب أطالب بإلغاء ما يسمى ب «الشيخ المطلق»، وأن يكون الشيخ «شيخا مقيدا»، فالشيخ المطلق مثل «الممارس العام» فى الطب، ولا يوجد عاقل مصرى يتوجه الى ممارس عام للعلاج من أمر مهم، أنا أريد الشيخ الاخصائى، فى الفقه أو فى التفسير أو فى العقيدة أو فى الحديث، ولا يتكلم الا فى تخصصه. وفى سنة 1931 عندما تخرج أول طبيب فى مصر، من كلية قصر العينى، كان من يصاب بأى مرض يذهب الى نفس الطبيب أو بالأحرى «الحكيم»، لأنه لم يكن هناك تخصص، والآن الشعب المصرى بمن فيهم الأميون يعرفون التمييز بين التخصصات المختلفة.. بفضل من؟ بفضل الأطباء، لأن الطبيب ظل يقول للمريض: ده مش تخصصى اذهب الى زميلى المتخصص فى مرضك، وهنا أصبح الشعب المصرى واعيا.. ولذلك أقدم قبلة احترام واجلال على رأس كل طبيب مصرى ساهم فى تنوير الناس، وكنت أتمنى أن أعطى هذه القبلة لكل أزهرى، اذا قال للناس ان هناك فرقا بين خريج الشريعة واللغة العربية وغيرها.. الخطاب الدينى لدينا متدهور لأنهم يرفضون التخصص. قلت: بهذه الصورة فالمسألة اذن شديدة التعقيد. هناك من يعيش أدبيا وماليا على حس الخطاب الدينى، وهناك أساتذة لهم برامج، وصيت هنا وهناك، واحد أستاذ بلاغة والآخر أستاذ اعلام، الكل يتكلمون فى الفتاوى. لو قلت لهم ممنوع حياكلوا وشك. والأمر الثانى انك بكده حتكشف السلفيين. لأنك ستجد كل الهيكل السلفى يتكون من طبيب أو محاسب أو غيره. ضحكت قائلا: يعنى بعيد عن الموضوع أصلا.. ولا حتى ممارس عام. نهائيا.. ويقولون احنا بتوع الدين والاتجاه الاسلامى. وهذه كلها عقبات كؤود، فالأوصياء الدينيون أخذوا الدين مهنة. من يجب أن يقوم الآن بتجديد الخطاب الدينى.. علما بأن هناك مقولة تفيد بأن من أفسد شيئا لا يمكن أن يصلحه؟ أحسنت والله.. (يبتسم ويضيف: الا اذا تاب).. لكن أنا أرى أن تغيير الخطاب الدينى لن يكون من أهله بل من المتلقين. أراهن على الشعب.. أتدرى كيف؟ بأن يغير الناس صيغة السؤال للشيخ.. بدلا من «يا مولانا رأيك ايه؟».. يقولون له: «يا أستاذنا قل ما تعرفه عن كذا».. «قل لنا آراء الفقهاء فى المسألة الفلانية». كان هناك اقتراح للبعض بأن تتولى مع الدكتورة آمنة نصير والدكتور أحمد كريمة لجنة لتجديد الخطاب الدينى لكن الأزهر رفض.. ما مدى صحة ذلك؟ وحق من رفع السماء لا أعرف، وأول مرة أسمع هذا الكلام. ولكن اذا كلفت بشئ فسأقوم به فورا. ولكن لو كتب لى العمر، فسيكون أول عمل لى، عن الخطاب الدينى الذى يجب أن يكون. بأن يقوم على أمرين أساسيين، هما عدم الوصاية، بالأمانة والصدق فى نقل المعلومة. واظهار جمال الله ورحمته فى الأرض. عشان الناس تحب ربنا. وسأنتهى الى وجهة نظرى، وهى التعددية الفقهية والتعددية الدينية. أى يجب أن ترتضى أنك مسلم وغيرك مسيحى تعيشان معا. أنت راض وهو راض. وكذلك المسلم الحنفى والأشعرى وغيرهما. وكذلك المسيحى البروتستانتى والكاثوليكى. ولابد أيضا من اظهار أن حقوق العباد أخطر من حقوق الله. وهذا ليس تهوينا لحق الله. لكنه يقوم على المسامحة فى حالة التوبة، أما فى حقوق العباد فلا توبة الا اذا سامحك الانسان الذى ظلمته، لأن الله لو غفر ظلمك له، يكون – وحاشاه أن يفعل – قد خان المظلوم الذى انتهك حقه. والله لا يخون.