يبدو أن تاريخ الحركات الإسلامية فى العالم يصنع من جديد انطلاقا من مصر بعد أن صنع للمرة الأولى عام 1928 بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين التى سقطت عن حكم مصر فى 30 يونيو 2013. فليس هناك من شك أن مؤسس الجماعة حسن البنا قد نجح مع جيل الرواد الأول لها فى توسيع دائرة وجودها لتصل إلى عدد كبير من دول العالم الإسلامي، ثم تكفلت أجيال القيادات التالية بتوصيلها لبقية دول هذا العالم ودول أخرى خارجية غير مسلمة ليصل الوجود التنظيمى للجماعة تحت مسميات مختلفة لأكثر من 70 دولة. ولم يكن نجاح الجماعة فقط تنظيميا بتمددها إلى هذا العدد الكبير من الدول، ولكن النجاح الأهم كان فى قدرتها على نشر فكرتيها الرئيسيتين بين المنتمين لها والمتعاطفين معها: الأولى أنها جماعة وسطية سلمية متدرجة، والثانية أنها عبر هذا سوف تصل إلى تأسيس وحكم االدولة الإسلاميةب الحقيقية التى غابت عن العالم والمسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. هاتان الفكرتان بالإضافة إلى القدرة التنظيمية والتجنيدية والتربوية الهائلة للجماعة هما اللتان صنعتا تلك المرحلة من تاريخ الحركات الإسلامية الممتدة من عام 1928 وحتى عام 2013، والتى هيمن فيها الإخوان بفكرتيهم وقدراتهم على المشهد العالمى للحركات الإسلامية. نعم ظهرت فى خلال تلك السنوات الخمس والثمانين حركات إسلامية أخرى تعددت أسماؤها ومناطق ظهورها واختلفت فى أفكارها وحركتها عن الإخوان، ما بين سلفية وجهادية وتكفيرية، إلا أن الغلبة فى ذلك المشهد العالمى ظلت قائمة للإخوان. وظل الإخوان حريصين طوال الوقت، وخاصة مركزهم الرئيسى وقيادتهم فى مصر، على التمسك بالفكرتين الرئيسيتين المشار إليهما، وعدم الانجراف بعيدا عنهما، اقتناعا منهم بأن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق الانتشار والشعبية اللذين يوصلان الفكرة الثانية . ففى عام 1938 كان مؤسس الجماعة حسن البنا هو الذى قام بنفسه بالتخلص من مجموعة اشباب سيدنا محمدب التى ظهرت داخل الجماعة وحملت أفكارا تكفيرية وجهادية. ومارس البنا خلال السنوات التالية كل الأساليب التى تضمن احتفاظ الجماعة بفكرتيها الرئيسيتين التى تقيم انتشارها عليهما، إلى حد حكمه العلنى على بعض أعضاء جماعته الذين حاولوا تفجير محكمة استئناف القاهرة عام 1949 فى بيانه الشهير بأنهم «اليسوا إخوانا وليسوا مسلمين». وعندما بدأ سيد قطب وضع وترويج أفكار العمل الجهادى العنيف داخل صفوف الجماعة منذ بداية ستينيات القرن الماضى وصولاً إلى تشكيله التنظيم الذى بدأ تنفيذها عمليا، لم تتورع قيادة الجماعة وعلى رأسها المرشد العام حينها حسن الهضيبى عن مطاردة هذه الأفكار والأعضاء المؤمنين بها داخل الجماعة وأصدر كتابه الشهير الذى يجرمها شرعيا ادعاة لا قضاةب. ومع ظهور واتساع الجماعات الجهادية العنيفة فى مصر منذ منتصف السبعينيات، حرصت قيادة الجماعة على النأى بها عنها ودخلت أحيانا فى مراحل صدام معها وفى مراحل أخرى تعاونت مع الأجهزة الأمنية المصرية لمواجهتها. وفى خارج مصر تورطت عناصر إسلامية بعضها مرتبط تنظيميا بالإخوان مثل تنظيم سوريا عام 1982 فى أحداث حلب وحماة، وبعضها مرتبط فكريا بهم مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ فى الجزائر بدءاً من عام 1992 ولسبع سنوات تالية، فى أعمال عنف كبرى وخطيرة كادت تطيح بالفكرة الرئيسية الأولى التى حرصت الجماعة على ترويج تمسكها بها وهى أنها جماعة وسطية سلمية متدرجة. وعلى الرغم من خطورة هذه التطورات وارتباطها ببروز وانتشار الجماعات الجهادية والتكفيرية العنيفة فى كثير من مناطق وبلدان العالم الإسلامي، فإن قيادة الجماعة فى مركزها بمصر لم تتورط فى تصريحات أو ممارسات يبدو منها أنها تؤيد مثل هذه التوجهات العنيفة، مع أنها وقفت إعلاميا وبدعم مادى سرى مع اإخوانهاب فى هاتين الدولتين. من هنا كان وصول الإخوان إلى حكم مصر عقب ثورة يناير 2011 إنجازا تاريخيا كاملا للفكرتين الرئيسيتين للجماعة، فهى قد وصلت للرئاسة وقبلها للبرلمان عبر انتخابات ديمقراطية تلت ثورة شعبية بما يؤكد الفكرة الأولى بأنها جماعة وسطية سلمية متدرجة، كما أنها وصلت بالفعل منفردة ومسيطرة بالكامل على حكم مصر بكل ثقلها بما يؤكد تحقق الفكرة الثانية بأنها وصلت إلى تأسيس وحكم االدولة الإسلاميةب الحقيقية. ومن هنا أيضا كان سقوط الإخوان بإرادة شعبية هائلة، هم ينكرونها حتى اليوم، فى يونيو 2013 بعد عام واحد من حكمهم المنفرد لمصر بمنزلة قضاء مبرم على هذه الفكرة وإمكان إعادة تحقيقها سواء فى مصر أو أى بلد آخر فى العالم. ففشل التنظيم الأم وقيادته مركزه العالمى فى مصر فى الحفاظ على إنجاز فكرتهم الرئيسية التى كانت ستتحول إلى مصدر إلهام لكل إخوان العالم فى حالة نجاحها، أطاح بالنموذج الذى ظلت الجماعة تروج له طوال خمسة وثمانين عاما، فلم يعد هناك من دولة اإسلامية إخوانيةب يمكن تأسيسها، بما فتح الباب أكثر وأكثر لنموذج الدولة االإسلامية الجهادية والتكفيريةب الذى قدمته جماعة داعش وراح ينتشر فى العالم الإسلامى بسرعة هائلة وعقب انهيار الفكرة الثانية الرئيسية للإخوان، انهارت أيضا وللأبد الفكرة الأولى الرئيسية بأنهم جماعة وسطية سلمية متدرجة. فمن على منصة اعتصام رابعة العدوية وبرعاية المجموعة الأقرب لأفكار سيد قطب داخل الجماعة التى سيطرت على قيادتها العليا، تحولت تدريجيا ثم بصورة أسرع، إلى جماعة تتبنى أفكار االتجهيلب وأحيانا االتكفيرب لخصومها وعلى رأسهم النظام السياسي، وأضحى العنف المسلح هو سبيلها الرئيسى لتحقيق ما تراه إعادة للشرعية وتطبيقا لشرع الله. ووسعت الجماعة من مواجهتها لتصبح مع قطاعات واسعة من المجتمع وليس فقط مع مؤسسات الدولة التى ظلت العدو الرئيسى لها. بعد هذا الانهيار الكامل لفكرتى قيام وبقاء الجماعة الرئيسيتين طوال تاريخها الممتد من عام 1928 وحتى عام 2013، أنها جماعة وسطية سلمية متدرجة وأنها عبر هذا سوف تصل إلى تأسيس وحكم االدولة الإسلاميةب الحقيقية، يبدو أن الجماعة نفسها قد انتهت فى مصر والعالم وأنها فى مرحلة الاحتضار. ويعنى هذا ببساطة أن تاريخا جديدا للحركات الإسلامية فى مصر والعالم قد بدأ، وأنه يختلف بصورة جذرية عن التاريخ السابق الذى هيمنت عليه جماعة الإخوان، وأنه سوف يشهد ظهور أفكار وتشكيلات تنظيمية إسلامية أكثر تطرفا وعنفا ستقود هى هذه المرحلة الجديدة إلى أن تستنفد قوتها وعوامل بقائها وانتشارها. لمزيد من مقالات ضياء رشوان