حرية التعبير من الحريات الأساسية التى أقرتها مواثيق حقوق الإنسان. وهى ليست حرية يتمتع بها الفرد فقط ولكن هى السبيل الأساسى لتكوين نظام ديمقراطى يدير الصراعات الاجتماعية بطريقة سلمية. ونحن فى العادة نعترف بهذه الحرية ونقرها فى دساتيرنا ثم ما نلبث أن نطيح بها ونقيم فى وجهها العقبات. فما أن يشير أحد إلى حرية التعبير حتى نعارضه بضرورة أن يكون لها حدود. وبالفعل هناك حدود نصت عليها المواثيق المنظمة لحماية الحريات وتتمثل فى عدم الإساءة لسمعة الغير وعدم الدعوة إلى العنف أو استنفار طرف من السكان ضد طرف آخر أو تغيير نظام الحكم بالقوة. وهى أمور ينظمها القانون فى سائر بلاد العالم الديمقراطية. ولكننا حين نستمع عندنا إلى أقوال رجال السياسة والإعلاميين بل وبعض المفكرين نلاحظ أن هناك ضيقا بحرية التعبير وخوفا شديدا من هذه الحرية على أمن المجتمع والسلام الاجتماعي. وأنا لا أظن أن السبب يتعلق بالظروف السياسية التى تمر بها البلاد. فحرية التعبير لا تزعزع استقرار البلاد الديمقراطية. وأعتقد أن السبب يرجع إلى مجموعة من الاعتقادات الراسخة التى تهيمن على ثقافتنا العربية. من بين هذه الاعتقادات افتراض وجود تعارض بين حرية التعبير وبين الأمن القومي، حتى إننا دائما نطرح السؤال: إلى أى مدى يمكن أن نسمح بحرية التعبير بحيث لا تشكل خطرا على أمن المجتمع؟ وهكذا يصبح أمن المجتمع هو الذى يحدد المجال المسموح لحرية التعبير. الواقع أن هذه الصيغة التى تبدو بديهية هى صيغة موروثة من الماضى القديم ولا تصلح للدولة الحديثة. لقد انقلبت الآية فى العصر الحديث وأصبحت حرية التعبير هى الضامن الأساسى للأمن القومي. فمنذ أن صارت الأمة هى مصدر السلطات وأصبحت الديمقراطية هى طريق اكتساب الشرعية أصبح من مصلحة المجتمع خروج جميع الأفكار فى وضح النهار. وهكذا فلا تعارض بين حرية التعبير للفرد وبين مصلحة الجماعة. ولو نظرنا نظرة مقارنة سريعة إلى المجتمعات التى يحرم فيها الافراد والاقليات والجماعات ذات الانتماء الايديولوجى من التعبير عن أفكارهم فإنها تكون عرضة للتفتت والتمزق والتناحر. أما المجتمعات التى تطلق حرية التعبير فإنها تكون أكثر صلابة وقدرة على مواجهة التحديات. والحال أننا، انحيازا لحقوق الافراد، قد ندافع عن حرية التعبير، ولكننا فى الوقت نفسه نقبل أن يُطاح بها بسهولة بسبب تصوراتنا الخاطئة عن الهيئة الاجتماعية. فيحلوا لنا أن نشبه المجتمع بالكيان العضوى أو الجسد الحى الذى ينبغى أن تعمل جميع أجهزته فى توافق وانسجام. وهذا المجاز محمل بالدلالات ذات النتائج الخطيرة على حرية التعبير. فعلى سبيل المثال كان جمال الدين الأفغانى يرفض آراء المتصوفة - وهذا حقه - ولكنه شبههم بالعضو الفاسد فى الجسد الذى لن يلبث أن ينتشر سمه فى سائر الاعضاء، لذا لا حل له إلا البتر، داعيا بذلك إلى فرض عقاب قانونى عليهم. من جهة أخرى يسود ثقافتنا احتفاء مبالغ فيه بفكرة الإجماع، وأى خروج عن الاجماع هو خيانة. وينبغى أن يكون قولنا «قولة رجل واحد»، وبالتالى أى اختلاف هو علامة ضعف. رغم أنه فى المجتمعات الحديثة أصبح الاختلاف فى الرأى مصدر قوة إذ يُنظر إليه على أنه رصيد يلجأ إليه المجتمع إذا ما فشل الطريق الذى اختارته الأغلبية. وكثير ما تنهال الأقلام والألسنة لتدعو لمصادرة رأى معين ومحاكمة القائلين به لأن رأيهم خاطئ. ولكننا نعلم منذ أفلاطون، وربما قبله، أن الرأى هو فكرة تكون فى مرتبة أدنى من الحقيقة وبالتالى فصاحب الرأى لا يعبر بالضرورة عن حقيقة ولكن عن وجهة نظر. ومن هذه الزاوية يصبح التعبير حقا لجميع الآراء بلا تمييز، بل إن القوانين التى تحمى حرية التعبير قد جاءت بالأساس لتحمى أصحاب الآراء التى يراها الناس خاطئة أو غريبة. كما يسود فى ثقافتنا أيضا فصل غريب بين حرية الاعتقاد وحرية التعبير. فبعد انتهاء اللجنة من إعداد الدستور فى عام 2012 أيام حكم محمد مرسي، خرج عدد من أعضائها يقولون بفخر إن الدستور أعطى المواطن حرية أن يعتقد ما يشاء، «فى قلبه». وهو ما يعد نوعا من الاحتيال لأنه لا أحد ينتظر الدستور كى ينشغل باله بأمر ما. وعبارة «فى قلبه» تعنى أن المواطن سيكون ملزما بأن يكتم فى سريرته ما يعتقد. إن حرية الاعتقاد المنصوص عليها فى إعلان حقوق الانسان تستلزم بالضرورة حرية التعبير. والأفراد كما يقول الفيلسوف الألمانى كانط لا يدركون قيمة أفكارهم إلا بعد طرحها والتداول بشأنها مع الآخرين. ومن بين القيود على حرية التعبير أيضا الافراط فى استخدام مجازات مثل الثوابت والخطوط الحمراء التى تستخدم لحماية اعتقادات وأشخاص ربما ليسوا فوق مستوى الشبهات. وكذلك تسرى فى ثقافتنا اتهامات كثيرة مبهمة لا نجدها، أو بمعنى أصح لم نعد نجدها، فى ثقافات الشعوب الأخرى مثل «الاساءة لسمعة الوطن» أو «إزدراء الاديان». فإذا كنا بالفعل واعين بأن مواجهة الارهاب والفكر المتطرف تقتضى بالأساس جهدا ثقافياً فعلينا أن نبدأ بتغير ثقافتنا المعادية لحرية التعبير، وعلينا تأكيد على هذه الحرية ليس بالوعظ والارشاد ولكن بالممارسة العملية. لمزيد من مقالات د.انور مغيث