الأرزاق لا شك بيد الله عز وجل، ولا يملك مخلوق أن يزيد أو ينقص من رزقك شيئا، ولذا فإن المسلم الحق هو من رسخت هذه العقيدة فى قلبه وامتلكت عليه فؤاده، حتى تمثل حاجبا من الوقوع فى الحرام الذى يدفع إليه دوما رغبة الإنسان فى الاستزادة مما يظن انه لا يأتى إلا بطريق الحرام. مثل تلك العقيدة إذن تولد لدى الإنسان عفة عن الحرام، وعفة عن ذل السؤال، ليقينه بأن الله عز وجل قدر له رزقا لن يحتال عليه بحال، فلو ركب بن آدم الريح فرارا من رزقه لركب الرزق البرق حتى يدركه ويقع فى فيه. والعفة.. خلق إسلامى أصيل، جاء الأمر به فى القرآن الكريم فى مواضع كثيرة، منها قوله تعالى ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف.. بل امتدح الله أصحاب هذا الخلق وأوصى بهم خيرا حين قال عز وجل: «للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضرباً فى الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم». هذا التأكيد القرآنى على هذه الصفة الحميدة التى يجب أن يتحلى بها المسلم قابله تأكيد نبوى على وجوب التحلى بهذه الخصلة، عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفذ ما عنده قال ما يكن عندى من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر. بل جعل النبى صلى الله عليه وسلم العفة من الصفات التى إن حصلها المسلم فقد حصل الخير كله، فقال صلوات ربى وسلامه عليه أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة فى طعمة. إنها منزلة عالية إذن، وصفة حميدة ينبغى الحرص عليها، لكن السؤال أى عفة تقصد؟! أهى العفة عن المعاصي، أم العفة عن سؤال الناس بغير حاجة؟! وأجيب فأقول إن النوعين مقصودان، ذلك لأن الصوم الذى نحن بصدد أيامه الزاهرة يدرب الإنسان على أن يعف نفسه عن الشهوات، من حيث هى مقصود الجوارح ومبتغاها، فيأتى الصوم ليهذب تلك الشهوة ويدرب النفس على العفة فلا تنظر لحرام، ولا تتحدث بحرام. ثم يأتى المعنى الآخر وهو آفة من الآفات التى انتشرت فى زماننا، حيث أصبح الكثيرون يستمرئون سؤال الناس بحاجة وبغير حاجة، امتلأت الشوارع بالمتسولين، بل والمؤسسات والهيئات والمصالح، وأضحى للتسول أنواع كثيرة غير ما يعرفه كثير منا.. وما ذلك إلا لغياب العفة التى تحفظ للنفس الإنسانية كرامتها وحياءها. ولا يقول قائل إن ما يدفع البعض إلى السؤال هو الاحتياج وعدم وصول الصدقات إلى مستحقيها، فهذا لا يبرر انتشار هذه الآفة بهذا الشكل المريع الذى يؤذى المشاعر ويسهم فى إفساد الصورة الحضارية لبلادنا المسلمة. وتأمل أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم وهو يعلم الأمة كيف تكون العفة، ويحذر من هذه الآفة الخطيرة، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتى يوم القيامة ليس فى وجهه مزعة لحم.. ياله من وعيد شديد! ثم يطلق النبى صلى الله عليه وسلم دعوة العمل والإنتاج التى هى خير من هذا المكسب السهل الميسور فيقول « لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغنى به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول».ونحن بحاجة إلى هذه التربية الإيمانية التى تجعلنا قادرين على فهم الإسلام كدين شامل، يحدد لنا العلاقة مع الله، والعلاقة مع المجتمع والعلاقة مع انفسنا. مفتى الجمهورية