يداوى الأجساد المريضة بلمسة يده الحانية التي تشخص العُضال من الداء، يُطبب الجراح المثخنة بلسانه الحلو العذب، يشفى الأعضاء المعتلة بسكينته المعهودة، ووقاره المهيب، قبل أن يشفيها بجراحاته الحاسمة. كنت في المستشفى الذي يحمل اسمه، وسمعت بأذني الألسنة التي تلهج بالدعاء له. لم يفارق مشرط الجراح يده حتى الآن، متعه الله بالصحة والعافية ومازال متابعا لكل ما هو جديد وحديث في عالم الطب...إنه الدكتور إبراهيم بدران..المعروف باسم طبيب الغلابة. هو من أسرة تنتمي جغرافيا إلى مركز مغاغة بمحافظة المنيا، كان والده- ضابط البوليس- مؤمنا إيمانا راسخا بالتعليم، فحرص على تعليم أولاده كلهم، وربّى فيهم الإحساس بالغير. وكان الدكتور بدران أصغر إخوته. التحق بدران بكلية الطب مصادفة ونزولاً على رغبة والده، رغم أنة كان يرغب في الالتحاق بكلية الزراعة، أسوة بشقيقه الأكبر، عثمان بدران. ولكنه أمام رغبة والده، التحق بكلية الطب، تأسيا بعمه الدكتور مهدي بدران، الذي كان أستاذا في الرمد. ومرة أخرى، ونزولا على رغبة والده، تخصص في الجراحة العامة، بعد أن كانت أمنيته التخصص في أمراض الباطنة، تأثرا بالدكتور أنيس بك سلامة الذى كان مثلا أعلى له، وكان أول من حصل على «أمريكان بورد» في أمراض الباطنة فى مصر، وكان قامة وقيمة فى حياة الدكتور بدران. من إنجلترا حصل على الدكتوراه فى الجراحة العامة في رحلة علمية شاقة، تعلم خلالها معنى الانضباط، وتأثر بوطنية الإنجليز الشديدة، فالجراحة عند الإنجليز- كما وصفها- مسئولية أمام الله وعقائدية. أما عند الفرنسيين والأمريكان، فهي وجاهة. أعطى الطب حياته منذ ترك الغرفة 19 في بيت الامتياز ليخوض غمار حرب فلسطين طبيبا ميدانيا، مع زملائه الستة الأوائل على الدفعة الذي كان أولهم، وكان معهم زميل آخر أكبر سنا عبروا قناة السويس بالقطار الذي تم تفكيكه قطعا على مدى ثلاثة أيام، شهد تقدم الجيش المصرى داخل إسرائيل في 13 يوما وصل خلالها إلى مشارف تل أبيب. تعامله مع مرضاه «طبيب الغلابة»، سألت الدكتور بدران إن كان هذا اللقب يضايقه أم لا، فبادر مسرعا بالرفض، وقال: لا. فقد بدأت في ممارسة الطب أثناء مرض والدي، الذي أصيب بالشلل الرعاش، وكنت وقتها في السنة الثالثة ثانوي، وظل ذلك إلى أن توفى وأنا في السنة الثالثة في كلية الطب. وكان الدكتور أنيس سلامة، أستاذ أمراض الباطنة، في ذلك الوقت، يداوم على زيارة وعلاج والدي لمدة ثماني سنوات كاملة، لم ينقطع يوما عنه، فتعملت منه حب المريض، والإحساس به، والتألم لحاله. ولذا فمن المعروف ان لديه حساسية مرهفة تجاه مرضاه قائلا: «أنا بأموت مع المريض.. والله ما مريض مات إلا ومت معاه، وكثير من أهاليهم يأتون ليشكروني على الجهد الذي بذلته، لأني كعبد غير قادر.. فالقادر هو اللي فوق، وأنا أؤدي ما تعلمته منه فقط». بدران والسياسة عاصر د. بدران خمس حقب: الملك فؤاد، والملك فاروق، والرئيس عبدالناصر، وأنور السادات، ومبارك. بإيجاز شديد، قال عن عبدالناصر، وعيناه تلمعان بالدموع: عبدالناصر كان وهما وأماني وحلما، وكان باعث نهضة مصر الحديثة، تعلمنا منه حب مصر، فقد كان يعشق ترابها. ولما سألته عن الرئيس السادات، انتفض من كرسيه، وقال السادات كان «أدرجى» ، وأضاف لمصر الكثير. وفى مقارنة رائعة شخّص د. بدران شخصيتي الرئيسين عبد الناصر والسادات، فقال: عبد الناصر كان الفداء. أما السادات، فقد كان التطلع لبناء مصر الجديدة. وسألته عن مبارك، فقال بتسامح جميل: كان مجتهدا، والزمن ظلمه. أما عن الرئيس السيسى، فقال بأريحية الواثق واطمئنان المؤمن: أنا مطمن لمصر فى حكم السيسى، فهو رجل يعرف الله، ومصر لا تحتاج إلى أكثر من هذا». ثم وصفه فى جملة بليغة، فقال: السيسى من عجينة عبد الناصر. قصة البدلة وعلاقته بالشعراوي سألته عن العناية بمظهره، فضحك حتى بدت نواجذه، وقال: لهذا قصة ظريفة تذكرها باسما: «في بداية حياتي الطبية، استدعى أساتذتي في كلية الطب، الدكتور عبدالوهاب باشا مور، والدكتور عبدالله بك الكاتب، والدكتور شفيق بك شلبى، أحد المتخصصين من إنجلترا ليحاضرنا حول اكتشاف غدة جديدة، وكنا حينها فى «عمليات» قصر العيني القديم. وبعد انتهاء المحاضرة، ارتديت البالطو، واتجهت إلى غرفة العمليات، فوجدت أساتذتي يدفعون من كتفي، ويقولون «يا أفندي اللي بيبنى مستقبل ما يمشي من غير كرافتة»، وكانوا بالطبع يقصدون البدلة، ومن يومها لم أخلع البدلة والكرافتة أبدا». ويفضل د. بدران اللون الأخضر. ولما سألته عن السبب، قال بتلقائية شديدة: «عشان مصر.. مصر خضرة». اما عن علاقته بالشيخ الشعراوي فأوضح أنه كان بالنسبة له مُلهِما، وكان ترجمانا للقرآن، يفسره بطريقة خاصة، وكان صورة للإنسان الذي يحب الناس، وكان منحة من الله لتجديد أمر الدين. فالشعراوى كان توأم روحي، فقد ظللت أجلس بجواره لمدة عامين كاملين بمجلس الوزراء. السياسة العلمية كان رئيسا لأكاديمية البحث العلمي من سنة 1980 وحتى 1984. فى أول سنة، ذهب إلى الهند، وحضر إعلان أنديرا غاندى لسياسة الهند التكنولوجية (التى أوصلت الهند من سنة 1980 إلى ما هى عليه حتى الآن). ولما عاد من الهند، جمع 300 عالم مصرى، ما بين سياسيين، وأطباء، ومهندسين، وزراعيين، وإدارة واقتصاد، ومختلف التخصصات، وظل هو وفريقه يعمل بإخلاص لمدة ثلاث سنوات لوضع سياسة مصر التكنولوجية، من خلال مؤتمرات محلية ودولية، وكُتب فى هذه المؤتمرات 10 آلاف صفحة، فى6 آلاف ساعة عمل، أعطاها للسيد/ كمال حسن على-وكان رئيسا للوزراء حينئذ - الذي وزعها على كل وزارات الحكومة، ولكنه أقيل، فتوقف المشروع، لسوء الحظ، ووصل د. بدران إلى سن المعاش، ولا تزال أوراق هذا المشروع لديه حتى الآن. ولأنه مؤمن طوال الوقت بقيمة العلم، فقد كان وراء تحقيق حلم جامعة النيل لتكون جامعة بحثية تضم كل ألوان المعارف، اقتداء بما فعلته أمريكا في طريق نهضتها. ويرى أن التأمين الصحي واجب قومي، ولكن مهره غال جدا. فلكى توفر مساواة، وتقاربا، وتكافلا، وعلاجا، ووقاية، وتأهيلا، ورعاية، فإننا نحتاج إلى ميزانيات قد تصل إلى 34 مليار جنيه في السنة، لكى تغطى المظلة التأمينية جميع أفراد الشعب المصرى.
روشتة لعلاج مصر من أمراضها المزمنة
يرى أن التعليم ابتداء من رياض الأطفال، والقضاء على الأمية، هو السبيل لنهضة مصر العلمية. فالتعليم الأساسي في أوروبا يمتد حتى الثانوية العامة. في فرنسا، يكتشفون العبقرية من الطفولة. وفى الهند، هناك أطفال في سن 12 سنة يحملون الدكتوراه في الرياضة البحتة، فلا عجب أن يكون دخل الهند 100 مليار دولار سنويا من المعلومات الرخوة (السوفت وير). وكما يشخص العُضال من الداء العضوي، والأمراض الحسية، سألته أن يشخص لنا الداء السياسى الذي تعانيه مصر الآن، فقال- بعد تأمل عميق، وتفكير ملىّ-:إن المرض المزمن الأول تتسبب فيه السياسة وتقلباتها، والمرض المتوطن هو اهتزاز قيمة المواطنة والوطنية، فلا بد أن تعود الوطنية، و لابد أن يتعلم الآباء والأمهات كيف يربون أولادهم على حب الوطن. تلك كانت مقتطفات من مشوار طويل، ناصع البياض، قطعه د. إبراهيم بدران، شيخ الجراحين، الذي تولى وزارة الصحة، وجامعة القاهرة، وأكاديمية البحث العلمي، ورئاسة المجمع العلمي العريق، مشوار يلخص تاريخ مصر بأفراحها، بإنجازاتها وانكساراتها.. صفحة مضيئة في تاريخ المحروسة، التي يستبشر خيرا بمستقبلها.