بالأمس مر عام على انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيسا للجمهورية بعد مرور عام تقريبا قبله على إطاحة الشعب المصرى بنظام الإخوان المسلمين برئاسة محمد مرسي. وبعد مرور هذا العام شديد الصعوبة والثقل الذى واجهه الرئيس المنتخب بدرجة غير مسبوقة من النشاط والتحرك الداخلى والخارجي، يبدو جليا أنه يواجه قدرا كبيرا من الضغوط من قوى وأطراف عديدة بداخل البلاد، فضلاً عن ضغوط أخرى خارجية، إقليمية ودولية، لكل منها أهدافه النوعية وتصوراته لما يجب أن يكون عليه النظام الجديد الذى يقوده الرئيس السيسي. النظام الجديد الذى قام على تحالف واسع للغاية ضم القوى السياسية والاجتماعية التى ثارت على حكم الإخوان فى 30 يونيو 2013، وعلى التقدير الشعبى الكبير لدور القوات المسلحة فى ثورتى يناير ويونيو، وعلى الشعبية الكاسحة التى نالها «الفريق» عبدالفتاح السيسى لدى المصريين - انذاك - استطاع أن ينطلق بسرعة هائلة فى الشهور الأولى بعد انتخاب السيسى مستفيداً من هذه العوامل الثلاثة. إلا أنه خلال الشهور التالية وحتى اليوم، تحول تأثير العاملين الأول والثالث من دفع للنظام الجديد للأمام ومساندته إلى عرقلته وإيجاد ضغوط متزايدة يومياً عليه بهدف تحديد شكله وجوهره وتوجهاته الرئيسية والمسار الذى يجب أن يمضى فيه. فتحالف 30 يونيو الواسع ضم جميع المتضررين والمتخوفين من حكم الإخوان من فئات اجتماعية متنوعة وتعبيراتها الاقتصادية والسياسية، ومعهم الأجهزة الرئيسية فى الدولة المصرية، ووسائل الإعلام الخاصة بأصحابها والعاملين فيها. ولم يكن هناك من أرضية مشتركة ولا برنامج موحد لهذا التحالف سوى أمرين: الأول معلن وواضح لدى الجميع وهو الخلاص من حكم الإخوان وأى حكم دينى تنظيمى مشابه لهم، والثانى مضمر وكامن لدى كل طرف من أطراف التحالف وهو الاعتماد على «الفريق» السيسى بشعبيته وقدرته ومعه القوات المسلحة من أجل صياغة شكل وجوهر ومسار النظام السياسى الجديد الذى يريده كل من هذه الأطراف ويحقق مصالحه ورؤاه. وكان العام الانتقالى تحت الرئاسة المؤقتة للمستشار عدلى منصور هو فترة الهدوء والاستعداد التى قضاها كل من هذه الأطراف انتظارا لانتخاب الرئيس الدائم، والذى كان واضحاً من توجهات الرأى العام أنه سيكون عبدالفتاح السيسى باكتساح كبير، فأيدته كلها بما يشبه الإجماع والآمال تملأ كل طرف منها بأنه سيشكل له النظام الجديد على النحو الذى يريد. أما الرئيس المنتخب، فقد وجد نفسه وهو يصوغ النظام الجديد مقيداً بثلاثة اعتبارات كبرى على الأقل. الأول هو المساحة الواسعة للتحالف الذى قامت عليه ثورة 30 يونيو وتعدد وتعقد التباينات بين أطرافه، والذى قدر أن خلخلته بالانحياز الواضح لتوجهات ومصالح ورؤى أحد أطرافه أو بعضها سيؤدى إلى تفككه بما لهذا من عواقب خطيرة فى ظل المواجهة المسلحة الواسعة التى بدأتها جماعة الإخوان وحلفاؤها ضد النظام الجديد. وتمثل الاعتبار المقيد الثانى فى التصاعد الملح لأهمية وأولوية قضيتى الأمن والاقتصاد لدى الغالبية الساحقة من المصريين، الأمر الذى دفع الرئيس إلى منحهما القدر الأكبر من الجهود والموارد. أما الاعتبار الثالث فقد تمثل فى التوقعات الهائلة من غالبية المصريين المؤيدين للنظام الجديد على قدرة الرئيس المنتخب على الإنجاز السريع والحاسم لجميع طموحاتهم والقضاء الكامل على كل معاناتهم وأزماتهم الطويلة. من هنا، فقد بدا واضحا أن هذه الاعتبارات الثلاثة قد دفعت الرئيس نحو اختيار واضح وهو عدم الاختيار الواضح لملامح محددة للنظام الجديد فى فترته الأولى تخل بأى من هذه الاعتبارات. وهكذا فقد توالت الجهود والتحركات غير المسبوقة فى الخبرة السياسية المصرية من الرئيس والحكومة من أجل تحقيق «إنجازات» قياسية على صعيدى الأمن والاقتصاد بصورة عامة للحفاظ على تماسك التحالف الواسع وتحقيق توقعات المصريين فى قدرة الرئيس على الإنجاز. وهكذا أيضاً، فإن ملامح الانحياز الاجتماعى والسياسى الواضحة للرئيس ونظامه بدت غائمة أو غامضة، على الرغم من وضوحها الشديد فى ذهنه وما هو معروف ومنقول عنه، الأمر الذى أعطى انطباعات خاطئة لأطراف عديدة فى المجتمع والدولة بأنه لم يشكلها بعد وأنه قابل للإقناع أو الضغط من أجل تحديدها واختيارها. وهكذا أيضا، فإن مواجهة موجة إرهاب الإخوان المتصاعدة عبر أجهزة الدولة وبخاصة الأمنية ومعها وسائل الإعلام وبالتحديد الخاصة، قد أعطت لها انطباعاً بأن الرئيس ونظامه لا يستطيعان الاستغناء عنها وأن وزنها فى النظام لابد أن يكون هو الأثقل. كل هذه العوامل المتشابكة المعقدة جعلت من النظام الجديد الآخذ فى التشكل ببطء بالنسبة للأطراف المختلفة لتحالف 30 يونيو بمثابة «عجينة صلصال» قابلة للتشكيل فى أى صورة يريدها من يستطيع الضغط عليها بما يملكه من وسائل. من هنا فقد تتابعت مشاهد الضغط، الذى لم يأخذ دوماً هذه الصورة الفجة بل ارتدى أحياناً قفازات حريرية أو أخذ هيئة التأييد والسعى للإقناع، لكى نرى ما فعلته ولاتزال قطاعات من رجال الأعمال والإعلام والقوى السياسية والحزبية وأجهزة الدولة الأمنية، من أجل تحقيق هدف كل منها المضمر بالاعتماد على «الرئيس» السيسى بشعبيته وقدرته لصياغة شكل وجوهر ومسا النظام السياسى الجديد الذى يريده كل منها، أى صياغة الشكل النهائى «لعجينة الصلصال». وفى هذا السعي، الذى بدا فى كثير من الأحيان منظماً ومبرمجاً ومنسقاً، لم تتورع بعض الأطراف عن اختلاق أزمات للرئيس ونظامه وتضخيم وقائع وتباينات، بل والتورط فى مؤامرات، بهدف تطويع الإرادة وتشكيل «الصلصال» بالصورة التى تريد. وهكذا ينتهى العام الأول من حكم الرئيس و«عجينة الصلصال» لاتزال تجتذب مطامع ومطامح الفرقاء - الحلفاء لكى يواصلوا محاولة تشكيلها كل بمفرده وبحسب مصالحه ورؤاه. وهنا يبدو التساؤل المنطقى والأخطر: هل يمكن لهذا الوضع أن يتواصل فى العام الثانى لتولى الرئيس السيسي؟ والإجابة بديهية وواضحة: ليس هناك من اختيارات فى العام الجديد أمام الرئيس ونظامه سوى حسم الاختيارات الاجتماعية والسياسية الواضحة والمعلنة، حتى تتشكل «عجينة الصلصال» بيد أصحابها ويمتنع الجميع عن العبث بها بعد تشكلها النهائي. ويعنى هذا أن سياسات كبرى وتشريعات رئيسية وإجراءات حاسمة وقرارات صادمة لابد للرئيس من اتخاذها والبدء فيها بأسرع وأحكم طريق ممكن، ومازال هناك كثير من التأييد الشعبى سيساندها بالإضافة إلى ما سوف تضيفه مضامينها من تأييد إضافى متوقع. أما خسارة بعض أطراف التحالف الواسع، فهى متوقعة فى كل الأحوال، وإن لم تكن اليوم فستكون غداً، والأفضل دوماً أن يحدد المرء موعد وطريقة إدارة خصوماته ومعاركه، وألا يعتقد فى حيادية الوقت، فتحديد شكل «عجينة الصلصال» سريعاً ونهائياً هو السبيل الوحيد لإنهاء المشهد المرتبك الحالى فى البلاد وتحويل الثورتين، يناير ويونيو، إلى نظام ودولة صلبين وليس «صلصالا»ً يعبث ويتلاعب به كل من يشاء. لمزيد من مقالات ضياء رشوان