كتبت : مروي محمد إبراهيم: في لحظة غير مسبوقة.. ساد الصمت وارتفعت الأيدي الواحدة تلو الأخري.. ليعلن البرلمان الألماني أنه مازال يكتب التاريخ ويختار أن يستكمل الاتحاد والتقارب بين شطري ألمانيا ويوطده. بل والقضاء علي أي حواجز معنوية ترسبت أو تخلفت عن حائط برلين ولم تفلح السنون في تحطيمها. لقد تحقق ذلك بالفعل بانتخاب يواخيم جاوك القس البروتستانتي والناشط السياسي والحقوقي البارز كأول رئيس لألمانيا الاتحادية ينتمي للطرف الشرقي من البلاد. بالتأكيد لا يمكن الفصل بين نشأة جاوك في جمهورية ألمانيا الديمقراطية- أو ألمانياالشرقية في مرحلة ما قبل الوحدة- وما وصل إليه اليوم. فمعاناته وهو طفل صغير من ويلات الحكم الشيوعي الشمولي والذي أثر بشكل مباشر عليه, لعب دورا مهما في تشكيل شخصيته السياسية. ففي عام1591, اعتقلت السلطات السوفيتية التي احتلت الشطر الشرقي من ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية يواخيم جاوك الأب وحاكمته عسكريا بتهمة التجسس لصالح الشطر الغربي, حيث خضع لكافة أنواع التعذيب الجسدي والنفسي ليعود إلي عائلته عام5591 وهو يعاني من إعاقة جسدية كاملة. وكان جاوك الإبن في الحادية عشرة من العمر لدي اعتقال والده القبطان البحري السابق. فما كان منه إلا أن ضمر كراهية لا نهائية للشيوعية ومعتنقيها, وكبرت معه هذه الكراهية عاما بعد الآخر حتي أنه عجز عن إخفائها عن أقرانه. بل إنه لم يتمكن من التحايل علي الأمر والتعالي علي هذه المشاعر الغاضبة حتي يتسني له دراسة الصحافة التي كان يحلم بها. فقد رفض الانضمام لاتحادات الشباب الشيوعية, كما أن تاريخ والده المعادي للسلطة وقف عائقا أمام التحاقه بأي من الجامعات التقليدية لأنها كانت تشترط الانضمام لهذه الاتحادات الشيوعية. لذلك فقد اضطر لدراسة الدين ليصبح قسا في الكنيسة البروتستانتية فيما بعد. وعلي الرغم من أنه لم يحلم يوما بأن يصبح قسا, إلا أن هذه الدراسة سمحت له بالاطلاع والتعمق في الكثير من العلوم الإنسانية مثل الفلسفة. كما أنها وفرت له درعا واقيا ضد الشيوعية. فالكنيسة في هذا الوقت كانت من المؤسسات المحدودة التي لم يغزها الفكر الشيوعي.وعلي الرغم من معاداته القديمة والقوية للحكم الشيوعي, لم يقتحم القس جاوك عالم السياسة قبل اندلاع ثورة عام9891 السلمية, أي بعد تجاوزه ال94 من العمر. وبمجرد سقوط حائط برلين واتحاد شطري ألمانيا, أصبح يواخيم رئيسا للجنة التحقيق في التجاوزات التي ارتكبها ال' ستاسي' أو الشرطة السرية في ألمانيا الديمقراطية. وتولي مهمة الإشراف علي هذا الملف حتي عام0002, قبل أن يتم تعيينه لتمثيل الشطر الشرقي في البوندستاج- البرلمان الألماني- ليومين حيث اعتذر عن هذه العضوية. وقد ترشح فيما بعد للعديد من المناصب كان آخرها منصب الرئاسة عام0102 ولكنه لم يحظ بالأغلبية اللازمة للفوز آنذاك. 'إنه معلم حقيقي للديمقراطية'..هكذا اعترف الجميع بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بقدرات جاوك السياسية. فعلي الرغم من عدم تأييدها له لتولي منصب الرئاسة خلال الأيام الماضية مفضلة عليه زميلها في الحزب المسيحي الديمقراطي كريستان فولف, إلا أن التاريخ سجل لها هذه الكلمات قبل عامين لدي الاحتفال بعيد ميلاد القس السابق ال07. وذلك علي الرغم من أن جاوك ينحدر مثلها من أصول ألمانية شرقية وتوليه هذا المنصب في نفس التوقيت الذي تشغل فيه منصبها كمستشارة يعد نقلة تاريخية بالنسبة لألمانيا الاتحادية. ويؤكد المراقبون ما يتمتع به الرئيس الألماني من كاريزما, وقدرة كبيرة علي التأثير منمن حوله. وهو ما كان السبب وراء اختياره لإلقاء الخطب الحماسية في ذكري الوحدة بين شطري ألمانيا وفي العديد من المناسبات الأخري. فالمعروف عنه تلقائيته وقدرته علي التعبير عما يجول بفكره بأسلوب رشيق وبليغ معبرا عن مواقفه السياسية بأسلوب يقربه من الناس, ولكنه كثيرا ما أثار عداء الحزب الشيوعي المعارض له. ولكن ذلك لم يكن سوي عنصر داعم له خلال مسيرته السياسية. ربما يكون منصب الرئاسة الألمانية شرفيا أكثر منه تنفيذيا ولكن اختيار القس المناضل السابق يواخيم جاوك للقيام بهذه المهمة يحمل معاني كثيرة; بدءا بتأكيد الوحدة بين شطري البلاد.. وانتهاء بضخ دماء جديدة في وقت تناضل فيه أوروبا- وعلي رأسها ألمانيا- للخروج من واحدة من أسوأ الأزمات المالية في تاريخها.