أطاحت زلة لسان بالقاضى الجليل من منصبه الوزاري، واستقال إرضاء للمزايدين على معياره الثقافي، فى اختيار المؤهلين لشغل مناصب قضائية، لما لها من سلطة وسطوة تتسلط بها على رقاب العباد، حتى أن الرسول الكريم (ص) قال «قاضيان فى النار وقاض واحد فى الجنة»! عادة ما تضع المجتمعات معايير تعكس السمات الثقافية المشكلة لها، فتضع شروطا وقواعد لابد من توافرها، فى الشخصيات التى تقوم بأدوار وظيفية فى المجتمع، حسب تعريف المجتمع لتلك الأدوار، وتقييمه لخطورتها، والقضاء من المهن الحيوية التى تخف فيها السلطة الخارجية على القاضي، وتثقل وتشتد سلطته الشخصية وضميره على الناس، لذا كان لابد من وضع معايير إضافية تتعلق بشخصيته والتكوين النفسى للقائمين على هذه المهنة، وغيرها من المهن التى تعطى لأصحابها سلطة ثقيلة، ورقابة مهما حرصت فهى خفيفة، بالنسبة لما فى يده من إمكانات، تتطلب قدرات لمنع سوء الاستغلال لها، وهى قدرات لا تتعلق بالتفوق الدراسى وحده، ولكن بالتربية وبناء هيكل المعرفة، الذى يمكن من التمييز الدقيق بين المتشابهات، وحسن والتحكم فى مصائر الناس، ووفقا للتعريف المفضل لى للعمل، إنه تحويل الأشياء أو الأفراد إلى مخلوقات أكثر نفعا أو جمالا، فالعمل يحتاج إلى إبداع عامليه ليحافظ على القيم الجمالية، التى تحدد الخير من الشر، وإدراك القيم الجمالية وتفسير الجمال يتم بالتدريب عليه لاكتشافه، كما يدرب العالم على العلوم لاكتشاف الطبيعة، فلا بأس من وضع المعايير فى اختيار الكفاءات، وتحديد الشروط، ووضع الاختبارات، ومراجعة النشاط الاجتماعى لطالب الوظيفة، على ألا يستثنى أى أحد سواء (ابن الزبال) أو أى ابن أى مواطن، لأنه قد يكون أكثر اكتمالا ووعيا بالقيم الجمالية فى الحياة، تؤهله ليقوم بدوره أفضل من ابن الباشا. من الواجب إذن وضع الشروط، التى تضمن حماية المجتمع من غير المؤهلين اجتماعيا ونفسيا لأدوار اجتماعية معينة، تتطلب قدرات خاصة، تتميز عن أدوار أخرى عليها رقابه أشد على أعمالها، فقد يكون المهندس أو الطبيب أو غيرهما مصابا بعقد نفسية، ولكنه يقوم بدوره المهنى على أكمل وجه، وأحيانا لايجد منافسا فى العمل، بينما فى الحياة الاجتماعية يحوطه الفشل وسوء التقدير من كل جانب، فلا يضر إلا نفسه، فالعقد النفسية ليست مرضا بقدر ما هى حالة نفسية، تعلو وتنخفض عند كل فرد، فالجميع يتعرض إلى انفعالات نفسية ومشاعر مركبة، تمر عليه من الخبرات التى يتعرض لها منذ طفولته، ويختزنها فى العقل الباطن، وتنمو داخله لتشكل سلوكه وشخصيته فيما بعد، وهناك من يستطيع مواجهة نقائصه بالعمل على تعويضها وبناء نفسه بالشكل الذى يرضيه عن نفسه، وهناك من يختزن السلبيات وتكون لديه عقد نفسية تضره، وتضر الواقعين تحت طائلته فى مجال عمله ككل! معظم المشاكل التى نلاحظها من أصحاب السلطة، تنبع من عقد نقص، تلازمهم لأسباب متباينة، سواء انحطاط المستوى الاجتماعي، أو لتفكك أسري، أو لعيوب خلقية تشعرهم بالنقص، وتخلق لديهم إحساسا لا شعوريا بالتعويض، وعدم الاعتراف بما لديهم من عيوب، وكل ما يذكرهم بالنقص يدفعهم للدفاع عن أنفسهم بالعدوان والاستعلاء على الآخرين، مما يشكل خطورة فى إعطائهم سلطة قد لا يحسنوا استخدامها فمن واجب المجتمع وضع معايير صارمة، تتعلق بالتاريخ الاجتماعى والسلوكى والعقلى والإنسانى لطالب الوظيفة الحساسة، والتى قد نجدها فى «ابن الزبال» ولا تتوافر فى «ابن الباشا»، لذا من الواجب أن يصاحب الفرد شهادات حسن السير والسلوك فى مشواره التعليمي، مثلها مثل شهادات التحصيل العلمي، بالإضافة إلى مواهبه فى اكتشاف القيم الجمالية فى الفنون والآداب، فكلها تصب فى تشكيل هيكل المعرفة القادر على تمكينه من أداء وظيفته السلطوية! ليست الإشكالية فى ابن (الزبال) ومؤهلاته، فلم تعد تصلح معيارا للقياس فى الزمن الحديث، لكن بعد ثورة التكنولوجيا والاتصالات وما أحدثته من تفتت السمات الثقافية العامة للمجتمع، سواء فى بلادنا أو البلاد المتقدمة، فرغم ما لها من فوائد، ولكنها أحدثت تغيرا وانقسامات عميقة، فى الخصائص الاجتماعية للمجتمع، فاستطاعت كل مجموعة تتفق على قيم واتجاهات معينة، حتى ولو إرهابية، أن تخترق المجتمع، وتسبب توترات اجتماعية، وصدامات عرقية ومذهبية وأخلاقية أحيانا، ورأينا استقواء جماعات حتى ولو محدودة بأفكار شمولية فاشية، لا تعوزها القدرات الإرهابية، وتهدد المجتمع، فلم يعد هناك مجتمع يسلم من أزمة الهوية، وفقدان المعايير الأساسية المنظمة له قوة إلزامها، والتى تؤجج صراع المصالح على كل المستويات وشطط الطموحات المنافى للواقع، وهو ما قد يفسر انضمام الآلاف من أبناء الدول الأوروبية لداعش، ووقوع شبابنا على مواقع التواصل الاجتماعى فى فخ التذمر والإحباط والسخرية والتهكم على كل شيء، ولا يكلفون خواطرهم بالتفكير فى الواجب المفروض على عاتقهم والمنوط بهم أداؤه، فكل الأفكار الشاذة والمتطرفة والمخبولة والمجنونة تجد لها مساحة وأنصارا، للتعبير عن ذاتها، بأى طريقة مقبولة أو قبيحة أو جميلة، فلم تعد هناك قيم جمالية متفق عليها لا فى السلوك أو الأفكار أو التعبير، أو حتى الألفاظ، فأصبحت الألفاظ السوقية فخر الكل من أبناء الطبقة الوسطى والعليا، وربما يستثنى منها ابن (الزبال) الذى قد يبحث لنفسه عن مكان مرموق بالمجتمع، فيحاول جاهدا ترميم التفتيت الذى حدث لقيم الجمال.. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات وفاء محمود